للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما القضية الثانية وهي الشريعة فقد أضاف إلى ما عرضنا له بشأنها قبل جوانب جديدة تتمثل في كونها (أتيمولوجيا) بمعنى الطريق المستقيم المؤدي إلى الله، وإن ما قامت عليه في تصور الناس في بعض البلاد كالجزيرة العربية لا يعدو أن يكون فهمًا تقليديا ممارسًا، وهي وإن كانت في الواقع مجموعة من المبادئ تشمل كل نواحي القانون من مدني ومؤسساتي وجنائي تلقاها المسلمون وكأنها ذات أصل إلهي قد ترسخ في الوعي الإيماني فترة من الزمن في الأوساط القروية والمدنية على سواء، إنها ناتجة عن الوسائل الاستنباطية المطبقة بصرامة على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية لكنها في الواقع لم تكن مطبقة على كل المجتمعات الإسلامية، فالعالم الرعوي والزراعي نجا منها باستمرار، كما أنها كانت في الغالب مرتبطة بمركزية الدولة أو السلطنة أو الخلافة. فالسلطان أو الخليفة وهو الإمام وقاضي القضاة والقاضي الأكبر كان يعين قضاة الأمصار الذين يتولون تطبيق أحكام الشريعة حيثما امتدت السلطة المركزية جغرافيًّا. وهذا بالطبع لم تكن تاريخيا كلية ولا شاملة وهكذا فإن قسمًا كبيرًا من البلاد كما كان الأمر في الجزائر قبل الاستقلال سنة ١٩٦٢ – ١٩٧٤ كان لا يخضع للتشريع الإسلامي ولكن تطبق فيه الأحكام العرفية المتوارثة (١) .

وللتمكين من هذا التصور يقابل هذا المؤرخ الفرنكو مسلم بين تاريخ التشريع في نظر المسلمين والفقهاء خاصة وبين ما كانت عليه قصة التشريع في الواقع من الناحية التاريخية التي قدمها لنا محررة عن طريق سنده ونظرته النقدية لها. وإذا كان جمهور المسلمين سابقًا وحاضرًا يعتقد أن الشريعة تشكلت تدريجيًّا بفضل ممارسة القضاة الذين كان عليهم مواجهة حل مسائل المسلمين المتفرقة والعديدة، وأن تلك الحلول كانت نتيجة دائمة لاستجواب القرآن ثم السنة ولاعتماد الفهم فيهما وروح الشريعة منهما، وأن هذه الممارسة القضائية والاجتهادات الفقهية كانت أساس مجموعة كبيرة من الأحكام التي اعتمدت خلال القرون الثلاثة الأولى من التاريخ الإسلامي ومن بعدها، وأن مدارس اجتهادية سنية وشيعية قد ظهرت هنا وهناك في أقطار العالم الإسلامي وكانت وما تزال مهيمنة على الأقل فكريًّا إلى الآن، فإن الصورة الثانية لتاريخ التشريع الإسلامي حسب رئيس قسم الدراسات الإسلامية بالسربون هي التي يوحي بها جولدزهير وشاخت في كتاباتهما والتي ينزعان عنها الأصل الإلهي بانتهائهم إلى القول بأن الشريعة عبارة عن هذا القانون الذي أنجز داخل المجتمعات الإسلامية وبشكل وضعي كامل.


(١) محمد أركون. تاريخية الفكر العربي الإسلامي: ص٢٩٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>