للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صيغة العقد:

سبق وأن قلنا إن العقد عبارة عن ارتباط إرادتين في مجلس واحد، يسمى مجلس العقد، وإن هذا الارتباط ينبئ عن الرضا والاختيار اللذين يعتبران هما أساس العقد وركنه الذي لا يقوم بغيره (١) .

وبما أن الرضا أمر خفي ليس بالإمكان معرفته، أقام الشارع مقامه ما يدل عليه من قول أو فعل محسوس. وبهذا تكون الإرادة الظاهرة هي المظهر الخارجي للتعبير عن الإرادة الباطنة، فالإرادة الباطنة التي يعبر عنها بالرضا هي الركن الحقيقي للعقد، وإلى هذا تشير عبارات كثير من الفقهاء رحمهم الله تعالى.

قال ابن عرفه المالكي: (ينعقد البيع بما يدل على الرضا) (٢) . وقال الخطيب الشربيني: (وإنما احتيج في البيع إلى الصيغة لأنه منوط بالرضا، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [سورة النساء: الآية ٢٩] . ولقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((إنما البيع عن تراضٍ ... )) ، ثم يضيف قائلًا: إن الرضا أمر خفي لا يطلع عليه فأُنيط الحكم بسبب ظاهر وهو الصيغة) (٣) .

وحكى ابن عابدين عن بعض كتب المذهب، أن ركن البيع الفعل الدال على الرضا بتبادل المِلْكين من قول أو فعل (٤) . وجاء في الروض النضير نقلًا عن بعض المحققين: (لما كان البيع وغيره من المعاملات بين العباد أمورًا مبنية على فعل قلبي وهو طيبة النفس ورضى القلب وكان ذلك أمرًا خفيًّا أقام الشرع القول المعبر عما في النفس مقامه وناط به الأحكام على ما اعتيد من إقامة الأمور الظاهرة المنضبطة مقام الحكم الخفية في تعليق الأحكام بها، واعتبر أن يصدر عن قصد من المتكلم بها فلم يعتبر بكلام الساهي ولا من سبقه لسانه ولا من الحاكي ولا من المكره ولا من الجاهل لمعانيها بالكلية كالأعجمي حيث نطق بها بكلام عربي لا يعرف معناه أصلًا ونحو ذلك) (٥) .


(١) الرضا عند الحنفية عبارة عن امتلاء الاختيار، أي بلوغه نهايته، بحيث يفضي أثره إلى الظاهر من ظهور البشاشة في الوجه ونحوها. وأوجزه بتعريف آخر قالوا فيه: الرضا هو إيثار الشيء واستحسانه. انظر كشف الأسرار عن أصول البزدوي لعبد العزيز البخاري: ٤/٣٨٢، حاشية ابن عابدين على الدر المختار: ٤/٥٠٧. وعرفه الجمهور بأنه قصد الفعل دون أن يشوبه إكراه، انظر الخرشي على سيدي خليل: ٥/٩، ابن حجر في تحفه المحتاج: ٤/٢٢٩، المرداوي في الإنصاف: ٤/٢٦٥. أما الاختيار فعرفه الأحناف بقولهم: (إنه القصد إلى أمر متردد بين الوجود والعدم داخل قدرة الفاعل بترجيح أحد الأمرين على الآخر) ، ولخًَّصُوه بتعريف آخر جاء فيه: (هو القصد إلى الشيء وإرادته) . فالمكره على الشيء يختاره ولا يرضاه. انظر البخاري وابن عابدين في المصدرين السابقين. وعرفه غير الحنفية من الفقهاء بقولهم: الاختيار هو القصد إلى الفعل وتفضيله على غيره بمحض إرادته، فهو في هذه الحالة ينافي الإكراه. انظر الحطاب في مواهب الجليل: ٤/٢٤٥، البهوتي في كشاف القناع: ٢/٥، الدكتور علي محيي الدين القره داغي في رسالته مبدأ الرضا في العقود: ١/١٩٢.
(٢) انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: ٣/٢.
(٣) انظر مغني المحتاج: ٢/٣.
(٤) انظر حاشية رد المحتار على الدر المختار: ٤/٥٠٤.
(٥) انظر: ٣/٤٢٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>