للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(ج) خيار الرجوع للمتعاقدين الغائبين:

سبق وأن ذكرنا أن فقهاء المسلمين على خلاف فيما بينهم، قد أثبتوا للمتعاقدين الحاضرين في حالة تعاقدهم في مجلس وحد خيارات ثلاثة، هي خيار الرجوع وخيار القبول وخيار المجلس، فهل يثبت هذا الحق للمتعاقدين الغائبين أم لا؟

أقول: إن خيار الرجوع للموجب حق أثبته جمهور العلماء للمتعاقدين الحاضرين، وهو يثبت كذلك عندهم للمتعاقدين الغائبين، إلا أن الفرق بينهما أنه لو نطق الموجب بالرجوع بعد القبول، فلا يُسمع فيما لو كان العقد بين غائبين، أما عند التعاقد بين حاضرين، فالرجوع مقبول على رأي من يجيز خيار المجلس فقط، أما عند غيرهم فلا.

وخيار الرجوع للقابل لا يقبل عن رأي من ينكر خيار المجلس سواء كان العقد بين حاضرين أم بين غائبين، لأن العقد قد تمَّ بقوله قبلت. أما على رأي من يجيز خيار المجلس، فرجوع القابل مقبول عنده فيما لو تم العقد بين حاضرين، لأن تفرق الأبدان غير حاصل، فعلى هذا ما زال العقد قابلا للانفساخ عندهم، وفي حالة التعاقد بين غائبين فلا يتصور خيار المجلس.

والذي نريد بحثه هنا هو: هل يشترط في الرجوع ذاته أن يسمع من الطرف المقابل قياسًا على وجوب سماع الصيغة الأولى وهي الإيجاب والقبول في حالة إبرام العقد بين حاضرين أو غائبين؟

الجواب على هذا: أن فقهاء الحنفية قد صرحوا في كتبهم، أن للعاقد بعد صدور الإيجاب منه الرجوع عن كلامه قبل صدور القبول من الطرف الثاني، سواء صدر الإيجاب من البائع أو المشتري، ذكر ذلك ابن عابدين نقلًا عن البحر، حيث قال: (والحاصل أن الإيجاب يبطل بما يدل على الإعراض وبرجوع أحدهما عنه وبموت أحدهما) (١) .

وبخصوص سماع كل طرف رجوع صاحبه، لم يشترط الأحناف في التعاقد بين الغائبين علم الطرف المقابل عند رجوع الموجب عن كلامه، وإنما يكتفي بالإشهاد على رجوعه كما هو الحال في حالة قبوله للبيع، وهذه المسألة تعتبر من وسائل الإثبات فقط.

قال ابن الهمام: (ويصح رجوع الكاتب والمرسل عن الإيجاب الذي كتبه وأرسله قبل بلوغ الآخر وقبوله، سواء علم الآخر أو لم يعلم، حتى لو قبل الآخر بعد ذلك لا يتم البيع) . وهذا بخلاف ما لو وكل بالبيع، ثم عزل الوكيل قبل البيع، فباع الوكيل، فبيع الوكيل قبل علمه بالعزل نافذ (٢) .


(١) انظر حاشية رد المحتار على الدر المختار: ٤/٥٢٧.
(٢) انظر فتح القدير: ٥/٧٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>