التعاقد بين الغائبين:
والتعاقد بين الغائبين كالتعاقد بين الحاضرين، يجب أن يتم في مجلس العقد، وللموجب فيه خيار الرجوع في إيجابه، وللمتعاقد الآخر خيار القبول، ويجب فيه مطابقة القبول للإيجاب على النحو الذي فصلناه في التعاقد بين الحاضرين.
إلا أن التعاقد بين الغائبين له خصائص يتميز بها عن التعاقد بين الحاضرين من حيث:
(أ) مجلس العقد.
(ب) وقت تمام العقد.
(ج) خيار الرجوع وخيار القبول وخيار المجلس.
إن مجلس العقد بين الغائبين غير مجلسه في التعاقد بين الحاضرين، فالمجلس الثاني هو محل صدور الإيجاب، أما المجلس الأول وأعني به مجلس الغائبين، فهو محل بلوغ الإيجاب إلى المتعاقد الغائب، أي محل أداء الرسالة أو بلوغ الكتاب.
واعتبر الفقهاء عند التعاقد بالكتابة أو المراسلة قبول القابل حين بلوغه الخبر، هو وقت انعقاد العقد، ولا يشترط أن يكون القبول قد وصل إلى علم الموجب.
خيار الرجوع للمتعاقدين الغائبين:
إن خيار الرجوع للموجب حق أثبته جمهور العلماء للمتعاقدين الحاضرين، وهو يثبت كذلك عندهم للمتعاقدين الغائبين. إلا أن الفرق بينهما أنه لو نطق الموجب بالرجوع بعد القبول فلا يسمع فيما لو كان العقد بين غائبين، أما عند التعاقد بين حاضرين، فالرجوع مقبول على رأي من يجيز خيار المجلس فقط، أما عند غيرهم فلا.
وخيار الرجوع للقابل لا يقبل على رأي من ينكر خيار المجلس سواء كان العقد بين حاضرين أم بين غائبين، لأن العقد قد تمّ بقوله قبلت. أما على رأي من يجيز خيار المجلس، فرجوع القابل مقبول عنده فيما لو تمّ العقد بين حاضرين، لأن تفرق الأبدان غير حاصل. وفي حالة التعاقد بين غائبين فلا يتصور خيار المجلس.
التعاقد بواسطة وسائل الاتصال الحديثة:
لقد ظهر لنا خلال البحث أن الفقه الإسلامي يعتبر الرضا هو الأساس في إبرام العقود، لهذا أجاز التعاقد بالرسالة والكتابة وبالإشارة وبالتعاطي، بل ذهب إلى أبعد من هذا عندما اعتبر التعاقد جائزًا باتخاذ أي مسلك آخر لا تدع ظروف الحال شكًّا في دلالته على التراضي. ولم يتشدد سوى بعض فقهاء الشافعية رحمهم الله تعالى.
من هذا كله نستخلص أن التعاقد بواسطة وسائل الاتصال الحديثة يتماشى مع ما قرره الفقهاء من قبل. والتعاقد عبر هذه الوسائل ليس تعاقدًا بين حاضرين من كل وجه ولا بين غائبين من كل وجه، فالمتعاقدان لا يضمهما مجلس واحد وليس ثمة فاصل زمني بين القبول والعلم به. لذا ساد القول بأنه تعاقد بين حاضرين من حيث الزمان لعدم الفاصل الزمني وبين غائبين من حيث المكان نظرًا لبعد الشُّقَّة بينهما.
والله أعلم.
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو