للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالقاعدة الأساسية في العقود هي تحقق الرضا للطرفين والتعبير عنه، وإظهاره بأيَّة وسيلة مفهومة كما أن العرف له دور أساسي في باب العقود، حتى صاغت الحنفية منه قاعدة: العادة مُحَكَّمة، وقال ابن نجيم بعد سردها: (واعلم أن اعتبار العادة والعرف يرجع إليه في الفقه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا، فقالوا في باب ما تترك به الحقيقة: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة) (١) ، وكذلك أفاض القرافي المالكي في هذه المسألة، وذكر أن العرف يقضي في زمن معين، حتى بعدم قبول بعض ألفاظ مقبولة في زمن ما نظرًا لأنها أصبحت متروكة غير مفهومة، كما يقضي بقبول ألفاظ مفهومة لعصر لم تكن مقبولة من قبل، ونقل ذلك من الإمام الكبير أبي عبد الله المازري قوله: (... فإن النقل إنما يحصل باستعمال الناس لا بتسطير ذلك في الكتب، بل المسطر في الكتب تابع لاستعمال الناس) ، ثم رتب على ذلك أمورًا: (أحدها أن مالكًا وغيره من العلماء إنما أفتى في هذه الألفاظ بهذه الأحكام، لأن زمانهم كان فيه عوائد اقتضت نقل هذه الألفاظ للمعاني التي أفتوا بها فيها صونًا لهم عن الزلل) (٢) . ويقول الدسوقي: (والحاصل أن المطلوب في انعقاد البيع ما يدل على الرضا عرفًا ...) (٣) . ويقول النووي: (... ولم يثبت في الشرع لفظ له – أي للعقد – فوجب الرجوع إلى العرف، فكل ماعدّه الناس بيعًا كان بيعًا...) (٤) . ويقول ابن قدامة: (إن الله أحل البيع، ولم يبين كيفيته فوجب الرجوع فيه إلى العرف) (٥) . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فإذا لم يكن له – أي للبيع ونحوه – حد في الشرع، ولا في اللغة، كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، فما سموه بيعًا فهو بيع، وما سموه هبة فهو هبة...) (٦) .

والخلاصة: أن اللفظ – كما يقول الشاطبي – (إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى هو المقصود...) (٧) . ومن هنا فما التليفون إلا آلة معتبر عرفًا لتوصيل تلك الوسيلة – اللفظ – إلى سمع الآخر، فيكون مقبولًا شرعًا.

مجلس التعاقد في العقد بالتليفون:

إن من يعمق النظر في التعاقد بالتليفون يجد أنه نوع خاص ليس مثل التعاقد بين الحاضرين في جميع الوجوه، ولا مثل التعاقد بين الغائبين عن طريق الكتابة – أو المراسلة- من كل الوجوه، ولذلك لا بد من إلقاء النظرة إلى ما يتعلق باتحاد مجلس التعاقد أو اختلافه، ومن هنا نرى من الضرورة أن نثير ثلاث مسائل لها علاقة مباشرة بهذا الموضوع، هي: خيار الرجوع من الإيجاب، وخيار القبول (٨) ، وخيار المجلس. إذ إن هذه الموضوعات مترتبة على مجلس العقد، ولذلك نحاول أن نؤجل النظر فيها بالنسبة للتعاقد بالتليفون، ونحوه، فنذكر بالإيجاز التعريف بهذه الخيارات، ثم نفصل القول في كيفية مجلسه ومدته في التعاقد بالتليفون.


(١) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص٩٣ –١٠٤.
(٢) الفروق: ١/٤٤-٤٥.
(٣) الدسوقي: ٣/٤.
(٤) المجموع: ٩/١٦٣.
(٥) المغني: ٣/٥٦١ - ٥٦٢.
(٦) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام: ٢٩/١٣-١٩.
(٧) الموافقات: ٢/٨٧.
(٨) الإيجاب عند الحنفية هو التعبير الصادر أولا من أحد العاقدين، والقبول هو التعبير الصادر ثانيًا، وأما الجمهور فقد نظروا إلى أن الإيجاب هو تعبير المملك ونحوه، والقبول هو تعبير المتملك ونحوه عن العقد. يراجع في تفصيل ذلك: فتح القدير مع شرح العناية: ٥/٧٤، والفتاوى الهندية: ٣/٤، والبحر الرائق: ٥/٢٨٣، ومجمع الأنهر: ٢/٤، ومواهب الجليل: ٤/٢٢٨، والدسوقي: ٣/٤، والمجموع: ٩/١٦٢، والغاية القصوى: ١/٤٥٧، والروضة ٣/٣٣٩، والإنصاف: ٤/٢٦٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>