للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذه النصوص تدل بوضوح على أن التعاقد بين الماشين، أو الراكبين يختلف عن تعاقد الجالسين، حيث إن مجلس العقد الأول ينتهي فورًا فلا بد حينئذ من الفورية، في حين أن مجلس العقد في الثاني لا ينتهي ما داما في مجلس العقد، فعلى ضوء ذلك فالتعاقد بالتليفون أقرب من التعاقد وهما ساريان من حيث إن مكان العاقدين مختلف، ومن هنا فإن خيار القبول ينتهي بمجرد انتهاء المكالمة وسد التليفون، فلا يكون لمن وُجِّهَ إليه الجواب الحق في القبول بعد ذلك، وإذا قدم رضاه فيكون إيجابًا يحتاج إلى القبول من الشخص السابق. والله أعلم.

هذا على رأي القائلين بإثبات هذا الخيار، أما الذين لم يقولوا به – كالشافعية – فإن الأمر جد يسير، حيث يبطل الإيجاب بمجرد إنهاء المحادثة، وسد التليفون وذلك لأنهم يشترطون الفورية، كما سبق، وكذلك المالكية حيث وإن أجازوا الفصل بين الإيجاب والقبول لكنهم اشترطوا أن لا يخرج العاقد عن العقد إلى غيره عرفًا، بل إن القرافي صرح بعدم جواز التأخير فقال عند كلامه عن الإيجابات: ( ... القسم الثاني الذي هو جزء من السبب، فهذا لا يجوز تأخيره، كالقبول بعد الإيجاب في البيع، والهبة والإجارة، فلا يجوز تأخير هذا القسم إلى ما يدل على الإعراض منهما عن العقد، لئلا يؤدي إلى التشاجر والخصومات بإنشاء عقد آخر مع شخص آخر) (١) . كما اشترط المالكية في أثر الفصل بأن لا يكون في المزايدة يقول العلامة الصاوي (لا يضر الفصل بين الإيجاب والقبول إلا أن يخرج عن البيع لغيره عرفًا، وللبائع إلزام المشتري في المزايدة ولو طال حيث لم يجر عرف بعدمه) . (٢) .

وأما خيار المجلس عند القائلين فيثور التساؤل نفسه أيضًا: هل يعتبر مجلس التعاقد حسب مكان كل واحد من المتعاقدين بالتليفون أم باعتبار فترة الاتصال بناء على اختلاف مكانيهما؟

لقد أثار فقهاء الشافعية مسألة شبيهة بمسألتنا، واختلفوا في حكمها، وهي مسألة التعاقد بين المتعاقدين المتباعدين كيف يكون مجلس العقد بينهما؟ قال النووي: (لو تناديا وهما متباعدان، وتبايعا صح البيع بلا خلاف) (٣) ، وأما الخيار فقال إمام الحرمين: (يحتمل أن يقال: لا خيار لهما، لأن التفرق الطارئ يقطع الخيار، فالمقارن يمنع ثبوته، قال: ويحتمل أن يقال: يثبت ماداما في موضعهما، فإذا فارق أحدهما موضعه بطل خياره، وهل يبطل خيار الآخر أم يدوم إلى أن يفارق مكانه؟ فيه احتمالان للإمام، وقطع المتولي بأن الخيار يثبت لهما ما داما موضعهما، فإذا فارق أحدهما موضعه، ووصل إلى موضع لو كان صاحبه معه في الموضع عُدَّ تفرقًا حصل التفرق، وسقط الخيار، هذا كلامه. والأصح في الجملة ثبوت الخيار، وأنه يحصل التفرق بمفارقة أحدهما موضعه، وينقطع بذلك خيارهما جميعًا، وسواء في صورة المسألة كانا متباعدين في صحراء، أو ساحة، أو كانا في بيتين من دار، أو في صحن وصفة، صرح به المتولي. والله أعلم (٤)


(١) الفروق، ط. دار المعرفة: ٣/١٥٣ – ١٧٢.
(٢) بلغة السالك: ٢/٣٤٥.
(٣) المجموع: ٩/١٦٩، والروضة: ٣/٣٤٠.
(٤) المجموع: ٩/١٨١، ويراجع: مغني المحتاج شرح المنهاج: ٢/٤٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>