للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والحديث أيضًا – كما يقول ابن قدامة – دليل على أن التخاير في ابتداء العقد وبعده في المجلس واحدٌ، فالتخاير في ابتدائه أن يقول: بعتك كذا ولا خيار بيننا ويقبل الآخر على ذلك، فلا يكون لهما خيار، والتخاير بعد العقد: أن يقول كل واحد منهما بعد العقد: اخترت إمضاء العقد، أو إلزامه، أو اخترت العقد، أو أسقطت خياري، فيلزم العقد من الطرفين

(١) . بل أن البخاري عقد بابًا لذلك وسماه: (باب إذا خيَّر أحدهما صاحبه بعد البيع فقد وجب البيع) (٢) . وكذلك يُبْطِل خيارَ المجلس بعضُ التصرفات إذا صدرت منهما، أما إذا صدرت من أحدهما فإنه يبطل خياره فقط (٣) على تفصيل وخلاف.

أما إذا اخترنا قول القائلين – في مسألة التعاقد عن بعيد – بعدم ثبوت الخيار بناء على أن التفرق الطارئ يقطع الخيار، فحينئذٍ يكون الأمر ميسورًا حيث إن مجرد صدور الإيجاب والقبول من المتحدثين بالتليفون يجعل العقد لازمًا، بعد توفر الشروط الأخرى – دون أن يكون لأحدهما حق خيار المجلس -، وكذلك الأمر عند الحنفية والمالكية القائلين بعدم ثبوت خيار المجلس مطلقًا – كما سبق-.

الترجيح

الذي يظهر لنا رجحانه هو القول بخيار المجلس حيث الأدلة الصحيحة الثابتة من السنة ناهضة على إثباته (٤) ، ولكن الذي ينبغي بيانه هو أن مجلس العقد في التعاقد بالتليفون الحكمي، إذ لا يوجد في الواقع اتحاد حقيقي لمجلس التعاقد، ومن هنا فالمجلس قائم ما دام المتحدثان متصلين من خلال التليفون، ولم يغلقا التليفون حتى ولو تحدثا بعد العقد في أمور أخرى طالت أم قصرت، فإن حق الفسخ قائم لهما، إذا بإمكان كل منهما أن يفسخ العقد ما دام الحديث موصولًا بالتليفون، ولم يقطع الخط، أما بعد أن سد التليفون، بعد تمام الإيجاب والقبول – مع بقية الشروط – فإن حق الفسخ قد انتهى إذا حصل التفارق.

وذلك لأن التعاقد بالتليفون ليس كالتعاقد بين الحاضرين، ولا كالتعاقد بين الغائبين في جميع الوجوه، حيث إن له شبهًا بكل واحد منهما، فهو مثل التعاقد بين الحاضرين من ناحية أن أحدهما يسمع الآخر مباشرة ولا تنقضي بينهما فترة زمنية بين صدور التعبير عن الإرادة إيجابًا وقبولا , ووصوله إلى علم الآخر , فلا تفصل بينهما فترة زمنية فتعبير أحدهما عن إرادته يصل إلى علم الآخر فور صدوره، كما لو كانا في مجلس واحد، ولذلك يعتبر العقد بينهما من حيث زمن انعقاده، كما لو كان بين حاضرين (٥) .، ولكنه في جانب آخر يشبه العقد بين غائبين حيث إن مكان كل واحد من المتعاقدين بالتليفون مختلف عن الآخر تفصل بينهما مسافة، وأنه لا يعلم بتحركات الآخر، ولذلك لا ينبغي أن يعامل معاملة العقد بين الحاضرين في كل الجوانب، بل يحكم بأن المجلس ينتهي بانتهاء التحدث بالتليفون.


(١) المغني لابن قدامة: ٣/٥٦٩ – ٥٧٠، وشرح المنهج: ٣/١٠٦، والخيار ١/١٦٥.
(٢) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع: ٤/٣٣٢.
(٣) المجموع: ٩/٢٠٥، والمغني: ٣/٥٦٩.
(٤) يراجع: المصادر الحديثية، والفقهية السابقة.
(٥) يراجع: مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني المصري: ٢/١٤٠-١٤١، ود. محمود جمال الدين زكي، النظرية العامة للالتزامات، ط. مطبعة جامعة القاهرة ١٩٧٨م: ص٩٤، وقد كان المشروع التمهيدي في مادته (١٤٠) ينص على أنه: (يعتبر التعاقد بالتليفون، أو بأية طريقة مماثلة كأنه تم بين حاضرين فيما يتعلق بالزمان، وبين غائبين فيما يتعلق بالمكان) . ولكن هذه المادة حذفت في لجنة المراجعة (لوضوح حكمها) وقد أخذ به القانون العراقي في مادته (٨٨) ، وراجع: الوسيط للسنهوري: ١/٢١٣، وقد نصت المادة (٩٤) من القانون المدني المصري على أنه: ( ... إذا صدر الإيجاب من شخص إلى آخر بطريق التليفون يجب أن يصدر القبول فورًا كالحاضرين، لكن الاشتغال بالعقد لا يضر ماداما في المجلس)

<<  <  ج: ص:  >  >>