للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولوجود هذا الفرق في العقد بين متعاقدين متباعدين ذهب جماعة من فقهاء الشافعية إلى عدم ثبوت خيار المجلس بينهما مع أنهم من القائلين بخيار المجلس – كما سبق – ونحن لا نقول بذلك القول، بل نقول بثبوت خيار المجلس في العقد الذي جرى بالتليفون، ولكن نقول إن التفرق يحصل بمجرد انتهاء التحدث بالتليفون، وذلك لأن التفرق الحقيقي من حيث البدن حاصل بينهما، والشيء الوحيد الذي وصلهما هو التليفون، فإذا انتهى التحدث فقد انقطع الوصل، على عكس المتعاقدين في مجلس واحد حيث إن المجلس جامع المتفرقات، وإن المكان قد جمعهما، ولذلك لا يتم التفرق بينهما إلا من خلال التفرق بالأبدان إلا إذا كان عقدًا فيه خيار، كما سبق.

هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن المراد بالتفرق في الحديث الصحيح: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) هو التفرق بالأبدان، ولكن التفرق لما لم يرد تفسيره في الشرع، وليس له حد معين في اللغة يرجع فيه إلى العرف، كما هو الحال في القبض، والحرز، يقول ابن قدامة: (والمرجع في التفرق إلى عرف الناس، وعادتهم فيما يعدونه تفرقًا، لأن الشارع علق عليه حكمًا ولم يبينه، فدل ذلك على أنه أراد ما يعرفه الناس كالقبض والإحراز (١) ، ولذلك اعتبر بعض الشافعية طول الفصل والإعراض عما يتعلق بالعقد قاطعًا لخيار المجلس، قال النووي: (وفي وجه ثالث أنهما – أي العاقدان – لو شرعا في أمر آخر، وأعرضا عما يتعلق بالعقد فطال الفصل انقطع الخيار، حكاه الرافعي،.. قال أصحابنا: والرجوع في التفرق إلى العادة، فما عده الناس تفرقًا فهو تفرق ملتزم للعقد، وما لا فلا ... ) (٢) .

ويؤكد هذا الرأي ويدعمه حرص الشريعة على مصالح العاقدين، واستقرار العقود، وإبعادها بقدر الإمكان عن الفوضى والاضطراب، وعن الجهالة والنزاع، ومن هنا فلا نقيس التعاقد بالتليفون على التعاقد بين حاضرين، في جميع الوجوه، بما فيه اعتبار المجلس إلى التفرق عنه، وبالتالي بقاء حق الفسخ إلى أن يتفرق الرجل من مكان تليفونه.. وذلك لأن هذا القياس مع الفارق إذ المتعاقدان الحاضران موجودان في مكان واحد في حين أن المتحدثين بالتليفون في مكانين مختلفين لا يربط أحدهما بالآخر إلا التليفون، ولذلك ينقطع بانتهاء التحدث فيه، بالإضافة إلى أن القول بدوام خيار المجلس إلى أن يفارق أحدهما مكان تحدثه يؤدي إلى عدم استقرار العقود وكثرة النزاعات والجدال، إذ أنهما لا يرى بعضهما البعض حتى يعلم بمجرد مفارقته أن العقد قد لزم، ولا يقال إن اشتراط البينات يدفع ذلك، لأن مبنى العقود على السرعة، كما أن الرجوع إلى القضاء والدخول في الخصومات ليسا من الأمور الهينة، فقد يترك الإنسان حقه الثابت حتى لا تُمَسَّ هيبته وكرامته أمام المحاكم، فما بالك بمثل هذه الأمور التي تحتاج إلى طول النفس، ولذلك كله نرى أن مجلس التعاقد بالتليفون يستمر ويبقى ما دام الكلام موصولًا بينهما، فإذا قطعا المحادثة، أو قطع المحادثة أحدهما بعد الإيجاب والقبول فإن العقد أصبح لازمًا للطرفين، والله أعلم.


(١) المغني: ٣/٥٦٥.
(٢) المجموع: ٩/١٨٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>