للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفيما بعد، نلاحظ أن هذه المسائل أصبحت ذات أهمية عظيمة وأصبحت مجالًا للبحث والنقاش في علم الباندكت (Pandect) ، الألماني في أواخر القرن التاسع عشر بسبب صدور القانون التجاري الألماني، وبعد ذلك دخلت هذه المسائل إلى التشريعات الحديثة المتعلقة بمجال القانون المدني، منها على سبيل المثال قانون الالتزامات السويسري وقانون الالتزامات التركي الجديد المأخوذ منه.

أما في الفقه الإنجليزي فقد تم تطور نظرية انعقاد العقد بشكل واسع ومفصل. ويظهر أن نتائج هذا التطور في القانون الإنجليزي تم تدوينها وتجميعها عن طريق التشريع وذلك في قانون العقود الخاص بالهند في سنة ١٨٧٢ (١) .

وعلى عكس ما يلاحظ في الفقه الغربي، فإن المصادر الأصلية للفقه الإسلامي قد رسخت مبادئ الالتزامات في مجال العقود – وخاصة مبدأ الرضا منها – من جهة، وقام الفقهاء المسلمون بدراسة مسائل دقيقة تتعلق بموضوع انعقاد العقد منذ عهود مبكرة جدًّا في تاريخ الفقه الإسلامي بالحاجة إلى الاهتمام بدراسته على مستوى اهتمامهم بدراسة مسائل التعاقد بين الحاضرين، لأنه لم يكن لديهم وسائل الاتصال الحديثة ولم تبرز الحاجة إلى تلك المسائل بالشكل الذي نشعر به في هذا الزمان إلا أنه لم يهملوا هذا الموضوع بكامله، بل تطرقوا إلى مسائله بخطوطها العريضة تحت عنوان (التعاقد بالرسالة والكتابة) وبينوا أحكام هذه المسائل.

وفي وقتنا الحاضر، يكاد يشعر العالم بأسره بالحاجة إلى وحدة التشريع في هذا الموضوع (أي أحكام العقد) الذي له حيويته وأهميته والذي له صلة وثيقة بالحياة التجارية خاصة. ولعل أبرز دليل على هذه الحاجة الماسة هو (اتفاق الأمم المتحدة فيما يخص بيع السلع الدولي) الذي تم قبوله بفيينا في تاريخ ١١ أبريل ١٩٨٠، وذلك بعد فعاليات مشتركة بين الدول استمرت في هذا المجال منذ سنوات عديدة. وسنشير إلى هذا الاتفاق في بحثنا باسم (اتفاق فيينا) .

ومن البديهي أن موضوع بحثنا ليس شاملًا لجميع مسائل نظرية العقد بل هو محدّد بمسائل التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة.

والجانب الهام بالدرجة الأولى من وجهة نظر موضوع بحثنا هو التعاقد بين الغائبين. ولكن الأمرين التاليين يقتضيان دراسة كل من الشكلين للتعاقد أي ما بين الحاضرين وما بين الغائبين على حدة وذلك بقدر ما يتصل ببحثنا، الأمر الأول: ضرورة تطبيق أحكام التعاقد بين الحاضرين باعتبار معظمها في مجال التعاقد الذي يتم بواسطة بعض وسائل الاتصال الحديثة أيضًا. والأمر الثاني: أن أحكام التعاقد بين الحاضرين – دراسة وتحليلًا وتقييمًا – تحمل في طياتها أهمية بالغة في إلقاء الضوء على أحكام التعاقد بين الغائبين مما يتيح للباحث فرصة للتوصل إلى نتائج صائبة في هذا المضمار.

ومع هذا، فإن مسألة تحديد وقت انعقاد العقد في التعاقد بين الغائبين هي التي تكون العمود الفقري لموضوع بحثنا، ولذا فسيكون الحيّز الأوفر مخصصًا لها في هذا البحث.

وسنكتفي في بحثنا هذا بذكر بعض المعلومات الأساسية التي تسلط الأضواء على حل المسائل المتعلقة بموضوع بحثنا، متجنبين – بقدر الإمكان – تكرار المعلومات والتطرق إلى موضوعات جانبية. وبهذا الاعتبار، لن تحتل دراسة الموضوعات التالية مكانًا خاصًا في بحثنا هذا.

١- مقارنة مفهومي (العقد) و (التصرف) .

٢- الخلاف الواقع بين الأحناف وبين غيرهم في تعريف مفهوم (الركن) وكذلك خلافهم في تعداد أركان العقد. (ويكفي هنا أن نذكر أن تراضي الطرفين (٢) . هو أساس العقد وبعبارة أخرى أن حل أموال الناس منوط بالرضا باتفاق الفقهاء ولا يمكن القول بأن التراضي قد تحقق إلا بتوفر الأمور ثلاثة. (١) الإيجاب (٢) القبول (٣) ارتباط الإيجاب بالقبول.


(١) انظر في هذا الموضوع مع معلومات حول بعض القوانين الأخرى: SCHWARZ، Borclar، vol. ١، p.٢٠٨.
(٢) بدل استعمال تعبيري (عاقدين) نفضل استعمال تعبيري (طرف) و (طرفين) . لأن الطرف الواحد قد يكون شخصًا واحدًا أو أكثر. انظر في نفس المعنى: موسى (محمد يوسف) ، الأموال ونظرية العقد في الفقه الإسلامي ١٩٨٧م ط. دار الفكر العربي

<<  <  ج: ص:  >  >>