للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتتبلور أهمية هذه المسألة في التعاقد بين الغائبين، وخاصة في ظروف الوقت الحاضر. بناء على هذه الأهمية ينبغي لنا أن نقف أمام هذه المسألة موضحين الأمور التالية: إذا حدد الموجب للطرف الآخر مدة اعتبرها من مصلحة نفسه بعد تخطيط أموره وبإرادته الحرة، وقام الطرف الآخر معتمدًا على هذا التعهد بتحضير أموره لقبول هذا الإيجاب في إطار خطة مرتبطة بالمدة المتاحة له (وفي هذه الفترة قد يقوم الطرف الموجه إليه الإيجاب باستخدام كل الوسائل المتاحة أمامه لكي يلبي هذا الإيجاب وقد يتضرر هذا الطرف من جراء عدم انعقاد العقد نتيجة للتضحيات الجسيمة التي قدمها بهذا الخصوص) ثم قبل وأرسل خبر القبول إلى الموجب، وبعد زمن قصير وصل إليه خبر الرجوع عن الإيجاب الذي تم صدوره قبل صدور القبول أو وصل خبر الرجوع قبيل صدور القبول وتم القبول بعد هذا، فهل ينبغي لنا أن نقول بأن العقد لا ينعقد لأن الرجوع عن الإيجاب قد صدر قبل صدور القبول ولأن توافق الإرادتين لم يتحقق مهما يكن مستوى الضرر الذي لحق بالطرف الآخر؟ أم أن نقول بأن العقد ينعقد لأن الرجوع عن الإيجاب ليس من حق الموجب في هذه الفترة أي أنه صدر عن شخص لا يعتبر في نظر القانون ذا صلاحية في هذا الخصوص، وبالتالي يعتبر الإيجاب قائمًا حكمًا في مثل هذه الحالة؟

ونرى في هذه المسألة أن الحل الأول بالرغم من كونه مبنيًّا على منطق فقهي رصين فإن الحل الثاني هو الأوفق لمبادئ الفقه الإسلامي سواء من ناحية الشكل أو من ناحية المقاصد وإليك إيضاح ذلك:

أولًا: من ناحية الشكل: وكما بينا تحت عنوان (٢-٣-١) أن ارتباط الإيجاب بالقبول حكمي وليس حقيقيًّا. وأما في التعاقد بين الغائبين فإن اتحاد المجلس أيضًا حكمي وليس حقيقيًّا بالإضافة إلى ذلك. وإن هذا الموقف المتسامح الذي يتضمن التنازل عن بعض ما يقتضيه القياس (أي القاعدة العامة) بخصوص شكل انعقاد العقد والذي اتفق عليه معظم الفقهاء المسلمين يستهدف في حقيقة الأمر غاية مقصودة ولا يستند إلى مجرد فكرة (الشكل) (١) ويهدف هذا الموقف- أول ما يهدف- إلى إتاحة فرصة القيام بالعقد أي (سد الحاجة) أثناء قبول (الحُكمِيَّة) في كل من الحالتين السابقتين. وإزاء هذا، هل لا تكون اعتبار الإيجاب وخاصة الإيجاب المحدد بمدة معينة- وهو الذي نحن بصدده قائمًا حكميًّا إلى وقت انتهاء هذه المدة من مستلزمات الفكرة نفسها؟ وبعبارة أخرى، هل طريقة التعاقد بين الغائبين تملك حظًّا في حيز التطبيق- خاصة في ظروف وقتنا الحاضر- وهل تتحقق الغاية الآنفة الإشارة (وهي سد الحاجة) إذا لم نقل بقيام الإيجاب حكميًّا في هذه الحالة؟

ثانيًا: المقاصد العامة للتشريع: إذا قمنا بتحليل مصلحة كل من الطرفين في هذه القضية نجد أن إعطاء حق الرجوع المطلق للموجب الذي حدد إيجابه بإرادته المنفردة بمدة معينة (أي للشخص الذي تعهد أمرا معينًا إزاء آخر) هو- في التحليل الصحيح- عبارة عن (جلب المنفعة) . أما تقييد هذا الحق باشتراط انتهاء المدة المحددة فهو- في التحليل الصريح- عبارة عن (درء المفسدة) . وحسب القاعدة الكلية المقررة في الفقه الإسلامي إن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة.

أما إذا لم يحدد الموجب ميعادًا للقبول أو إذا لم تدل الظروف أو طبيعة المعاملة على التزام الموجب إيجابه مدة معينة، فإن مبادئ الفقه الإسلامي تقتضي الاعتراف بحق الرجوع ما لم يصدر القبول كما ورد في الفقه الحنفي.


(١) يراجع في تقييم موضوع (الشكل) من وجهة نظر الفقه الإسلامي: البحث القيم للدكتور سوار بهذا العنوان، المذكور في الهامش رقم ٥٠ من هذا البحث.

<<  <  ج: ص:  >  >>