للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالواقعة في أمر ديني اشترط فيه شرط مخالف لحكم الله فكان لغوًا والأمور الدينية موقوفة على النص، وأما الأمور الدنيوية كالبيع والإجارة والشركات وغيرها من المعاملات الدنيوية فالأصل فيها عرف الناس وتراضيهم ما لم يخالف حكم الشرع في (تحليل حرام أو تحريم حلال) كما تقدم، ومن أدلة هذا الأصل بعد الآية التي نفسرها وما أيَّدناها به حديث ((أنتم أعلم بأمور دينكم)) رواه مسلم من حديث أنس وعائشة (١) . وحديث: ((ما كان من أمر دينكم فإليَّ وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به)) (٢) ، رواه احمد. لهذا نجد الإمام أحمد أكثر أئمة الفقه تصحيحًا للعقود والشروط على أنَّه أوسعهم رؤية للحديث وأشدهم استمساكًا به، فأبو حنيفة يقدِّم القياس الجليَّ على حديث الآحاد الصحيح وأحمد يقدِّم الحديث الضعيف على القياس.

ومن العقود التي تشدّد بعض الفقهاء في إبطال شروطها عقد النكاح، فترى الذين يجيزون الشروط في البيع وهو من المعاملات الدنيوية الموكولة على العرف لا يجيزون الشروط في عقد النكاح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)) ، رواه أحمد والشيخان في صحيحيهما وأصحاب السنن عن عقبة بن عامر (٣) . وقد جوَّز أحمد بهذا الحديث أن تشترط المرأة في عقد النكاح أن لا يتزوج عليها وأن لا تنقل من بلدها أو من الدار، ويجيز لها فسخ النكاح إذا تزوج عليها وقد اشترطت عدم التزوج عليها كما يجيز لها الفسخ بغير ذلك من العيوب والتدليس (٤) .

وأجاز اشتراط التسري في شراء الجارية وحينئذ لا تجبر على الخدم (٥) . واشتراط أن يأخذ البائع الجارية يثمنها إذا أراد المشتري بيعها (٦) . ولكن قال: لا يقربها وله فيها شرط، ومذهبه هذا في الشرط هو الموافق لسهولة الحنفية السمحة ورفع الحرج منها، ولم أر أحدًا من العلماء وفَّى موضوع العقود مؤيدًا بدلائل الكتاب والسنة وآثار السلف ووجوه الاعتبار في مدارك القياس إلا شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- (٧)


(١) سيأتي تخريج الحديث في الفصل السادس.
(٢) سيأتي تخريج الحديث في الفصل السادس.
(٣) أخرجه الجماعة وغيرهم. انظر [المزي، تحفة الأشراف: ٧/٣١٦، ح٩٩٥٣] :
(٤) الذي وقفنا عليه من كلام أحمد في هذا الشأن ما نقله أحمد في [فتح الباري: ٩/١٨٩] في سياق عرضه لأقوال الصحابة والتابعين وأيمة الاجتهاد في تأويل الحديث الذي سبق تخريجه في التعليق السابق: وقال أحمد وجماعة: يجب الوفاء بالشرط مطلقًا. وانظر ابن قدامة في [المغني: ٦/٥٤٨، ٥٥٠] .
(٥) لم نستطع تصور هذه المسألة ولم نقف على من تصورها لأن ملك الجارية يبيح لمالكها وطأها دون حاجة للاشتراك وبائعها لم يعد يملك عند بيعه لها شيئًا من أمرها والتسري لا يتأتى إلا بعد عقد البيع أي بعد انتقال أمرها نهائيًّا من البائع إلى المشتري فلا ندري أين يكون محل مثل هذا الشرط ولا ما الذي يدعوا إليه ولا كيف يمكن اعتباره لو وقع؟ ؟!.
(٦) الأصل في ذلك ما أخرجه مالك وغيره من اللفظ لمالك في [الموطأ: ص٥١٦، ح٥] : عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أخبره أن عبد الله بن مسعود ابتاع جارية من امرأته زينب الثقفية واشترطت عليه أنك إن بعتها فهي لي بالثمن الذي تبيعها به. فسأل عبد الله بن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب، فقال عمر بن الخطاب: لا تقربها وفيها شرط لأحد. لكن عبد الرزاق أضاف في روايته جملة توضح كلام عمر إذ ذكر في [مصنفه: ٨/٥٦، ح ١٤٢٩١] : أن عبد الله بن مسعود (أراد أن يشتري من امرأته جارية يتسرى بها) ... إلخ.
(٧) تقي الدين بن العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، المعروف بابن تيمية، ولد في (حران) في العاشر من ربيع الأول عام ٦٦١هـ من أسرة توارثت العلم صاغرًا عن كابر، وبعد أن حفظ القرآن عُني بدراسة الحديث وعلومه والتفسير والفقه وأصوله ثم المنطق والفلسفة وعلم الكلام والجبر والحساب والمقابلة والكيمياء والفلك وغيرها من العلوم التي كانت معروفة لعهده ومن نشأته عرف بتجرده من التقليد وابتغاء الدليل حيث كان مع من كان على خلاف ما كان عليه معاصروه من التقيد بالمذاهب والعكوف على نصوص أيمتها، فأحفظ ذلك عليه علماء عصره واستعدوا عليه الحكام، فجرحوه لديهم ونسبوا إله مقولات لم يقلها، وصوروه لهم مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع، لا سيما الصوفية الذين كان ابن تيمية شديدًا عليهم متعقبًا لهم مفندًا أباطيلهم، مما أدى إلى سجنه، لكن سجنه كان خيرًا على العلم والمسلمين إذ أتاح له أن يفرغ للمزيد من الدراسات العلمية والتأليف، فأنتج كتبًا قيمة عز نظيرها في المكتبة الإسلامية.. ومن أبرزها: (مجموع الفتاوى الكبرى) و (منهاج السنة) و (القواعد النورانية) و (رائد العقل والنقل) إلى كثير غيرها، وانتقل إلى جوار ربه - رحمه الله- في ذي القعدة سنة ٧٢٨هـ بعد مرض دام بضعا وعشرين يومًا وتخرج عنه خلق كثير.. من أبرزهم نفعًا للإسلام والعلم: الذهبي وابن قيم الجوزية رحمه الله ورضوانه عليهم جميعًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>