للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال ابن حجر في [فتح الباري: ٩/٣٨٤، ٣٨٦] تعقيبًا على هذه الأحاديث: قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى أن الإشارة إذا كانت مفهمة تتنزل منزلة النطق، وخالفه الحنفية في بعض ذلك، ولعل البخاري ردّ عليهم بهذه الأحاديث التي جعل فيها النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة قائمة مقام النطق.

وإذا جازت الإشارة في أحكام مختلفة في الديانة فهي لمن لا يمكنه النطق أولى.

وقال ابن منير: أراد البخاري أن الإشارة بالطلاق وغيره من الأخرس وغيره التي يُفهم منها الأصل والعدد نافذ- كاللفظ، كذا ولعل صوابه: نافذة كاللفظ-. ويظهر لي أن البخاري أورد هذه الترجمة وأحاديثها توطئةً لما يذكره من البحث في الباب الذي يليه مع من فرق بين لِعان الأخرس وطلاقه والله أعلم.

وقد اختلف العلماء في الإشارة المفهمة، فأما في حقوق الله فقالوا: يكفي ولو من القادر على النطق، وأما في حقوق الآدميين كالعقود والإقرار والوصية ونحو ذلك؟ واختلف العلماء فيمن اعتقل لسانه ثالثهما عن أبي حنيفة إن كان مأيوسًا من نطقه. وعن بعض الحنابلة إن اتصل بالموت. ورجحه الطحاوي. وعن الأوزاعي إن سبقه كلام. ونقل عن مكحول إن قال: فلان حرّ ثم أصمت، فقيل له: وفلان؟ فأومأ صحّ، وأما القادر على النطق فال تقوم إشارته مقام نطقه عند الأكثرين واختلف هل يقوم منه – كذا ولعل صوابه: هل تقوم منه بمثناة فوقية- مقام النية كما لو طلق امرأته فقيل له: كم طلقة؟ فأشار بأصبعه.

قلت: لا نرى مسوغًا لهذا الاختلاف لما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من قصة اليهودي الذي رضخ رأس الجارية – وسنذكرها بأسانيدهم عندهم بعد قليل- إذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينتظر إقرار اليهودي حتى وإن أقر كما جاء في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم اعتمد إشارة الجارية القتيل وهي تحتضر، فأمر بالاقتصاص من اليهودي بنفس طريقة عدوانه، وفعله صلى الله عليه وسلم هذا التشريع ثابت وصريح باعتماد الإشارة، إذ أفهمت ما أريد بها إفهامه بمثل ما كان سيفهم النطق لو كانت قادرة عليه، وهذا التشريع أصل لا نرى وجهًا للاختلاف فيه، لاعتماد كل وسيلة من وسائل التعبير أفهمت.

المقصود التعبير عنه إفهامًا واضحًا يماثل إفهام النطق أو الكتابة مثل الإشارات البرقية والإشارات اللاسلكية الأخرى القابلة لأن تترجم ترجمة يطمأن إليها إلى عبارات أو كلمات، وسنسوق أدلة أخرى تثبت ما رجحناه بعد قصة اليهودي والجارية.

<<  <  ج: ص:  >  >>