للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: سبحان الله كيف غاب عن الشافعي وهو المحدِّث الصادق الثبت، أن هذا الحديث روي عن طرق عدة وفي بعضها (لا يسم) وفي بعضها (لا يسوم) وفي بعضها (لا يستام) وفي كثير منها (لا يبع) أو (لا يبيع) فلماذا لم ير الشافعي في اختلاف ألفاظ هذا الحديث ما يقتضيه الجمع بينها من أن الحديث رواه البعض بالمعنى، وأنَّ المساومة كانت عندهم مبايعة والسوم بيعًا والسائم بيعًا كالمساوم صاحب السلعة وهو أمر عرفه العرب كما سيأتي.

وقد أبدأ الشافعي وأعاد في تأييد ما ذهب إليه سالكًا منهاج الجدل السقراطي في ج٣، من كتابه (الأم) [ص١٠٤، وما بعدها، وكذلك ص٩٢] :

ومن أغرب الأشياء استدلال الشافعي بقصة مالك بن أوس بن الحدثان وقول عمر – رضي الله عنهما – له: (والله لا تفارقه) . الحديث. على دعواه بأن التفرق بالأبدان لا بألاقوال، وأن البيع لا يطلق إلا على ما تم العقد فيه. وأن العقد – نتيجة لذلك – غير ملزم للمتعاقدين في بيع إلا بعد أن يتفرقا بالأبدان أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر، فيختار صاحبه، ذلك بأن هذا الاستدلال لا يبعد كثيرًا عن قول الذين قالوا: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية ٢٧٥] ، فجوهر الموضوع واحد، إذ أن قصة مالك بن أوس بن الحدثان تستبدل أحد النقدين بالآخر وهي حال نص الشارع فيها، على أنه لا يجوز التفرق بين المتعاملين إلا بعد التقابض، أما في غير النقدين فإن تعليق العقد بالافتراق البدني لا يوجد نص صريح من الشارع فيه، ولا سبيل إلى دعوى الجمع بين وجود عقد – والعقد لا يكون إلا ملزمًا للطرفين المتعاقدين – وقيام حق الخيار الذي يناقض الإلزام بهما أو لأحدهما، وقيام حق الفسخ أيضًا وهو الصورة التي رآها الشافعي تأويلا لحديث منع بيع المسلم على بيع أخيه أو سومه على سوم أخيه.

وعلى هذا النسق جرى البيهقي – وهو من أئمة الشافعية ومحدثيهم – فقال في [السنن الكبرى: ٥/٣٤٥، ٣٤٦] بعد أن ساق بعد الأحاديث السابقة مما أخرجه البخاري ومسلم أو أحدهما.

وهذا الحديث حديث واحد، واختلف الرواة في اللفظ لأن البخاري رواه على أحد هذه الألفاظ الثلاثة من البيع والسوم والاستيام لم يذكر معه شيئًا من اللفظتين الأخريين إلا رواية شاذة ذكرها مسلم بن الحجاج، عن عمرو الناقد، عن سفيان، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة ذكر فيها لفظ البيع والسوم جميعًا، وأكثر الرواة لم يذكروا عن ابن عيينة لفظ السوم، فإما أن يكون معنى ما رواه ابن المسيب، عن أبي هريرة ما فسَّره غيره من السوم والاستيام، وإما أن ترجح رواية ابن المسيب على رواية غيره فإنه أحفظهم وأفقههم، ومعه من أصحاب أبي هريرة عبد الرحمن الأعرج وأبو سعيد مولى عامر بن كريب وعبد الرحمن بن يعقوب وبعض الروايات عن العلاء، عنه وبأنَّ روايته توافق رواية عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>