قلت: هاتان الحجتان داحضتان ونبدأ بالثانية فنحن لم نقف في حديث ابن عمر – مع تعدد طرقه وألفاظه – على عبارة (وإن لم يتفرَّقا) وهي موضع الشبهة ولا نعرفها حتى من رواية ضعيفة والذي يشبهها وربما اشتبه أمرها على الأزهري حديث ابن عمر، عن طريق الليث. وقد رواه أحمد وابن ماجه وسقناه آنفًا بسنديهما وفيه:((فإن خيَّر أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك وجب البيع، وإن تفرَّقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع)) . فالتفرق الوارد في الحديث بعد حكم التخيير يتصل بحكم آخر هو أن يتفرق المتبايعان ولم يترك واحد منهما البيع فهذه صورة أخرى غير صورة الوجوب نتيجة للاختيار، وطبقًا لهذا الحديث فإن البيع المعني فيه ليس العقد وإنما هو السوم والمبايعة تعني المساومة بدلالة سياق الحديث، والتخيير المنصوص عليه في الحديث هو صيغة يراد بها إتمام البيع، وكان صلى الله عليه وسلم يفعلها ومناطها وهي تخيير البائع بين سلعته والثمن الموضوع بين يديه، فقد يكون البائع راغبًا في النقد المسكوك أو الموزون فإذا قدم المشتري إليه غير النوع الذي يرغب فيه كان له أن يعدل عن البيع لاختلاف نيته حال البيع عن واقع ما أريد إتمامه به، وهذا الاختلاف هو الذي تجنبه الحديث وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بتأكيد البيع بالتخيير وهو طبعًا لا ينطبق على التعامل بنقد واحد معلوم متفق عليه في سلعة حاضرة أو متفق على مواصفاتها والتفرق الذي جاء في الحديث أنه موجب للبيع مناطه أنَّ المساومة على الثمن أو المشارطة على المواصفات وما إليها قد انتهى شأنها بتفرق المتبايعين فوجب البيع إذا لو أن أحدهما غير موافق على ما عرضه الآخر لم يتفرقا عن صمت بل عن إلغاء المبايعة أو تأجيلها إلى أن يتفقا في أجل آخر، وبهذا يتَّضح أن الاحتجاج بحديث ابن عمر باطل وأنَّ الزيادة التي زادها الأزهري ونقلها عنه ابن منظور ليست صحيحة، أما الحجَّة الأولى وهي تأويله لبيت الشمّاخ المبني على الزعم بأنَّ الشماخ قال بيته ذاك وصفًا لحال مضت وانقضت فهو تأويل من الغريب أن يصدر عن لُغوي، ذلك بأنَّ إطلاق الشماخ وصف (البيع) على الذي (انبرى يَغلي السوم، لا يستقيم من عربي صريح أصيل إلا يكون (البيع) عنده هوالمساوم وأنَّ الكلمتين تعنيان معنى واحدًا، فقد كان الشماخ قادرًا، ودون تكلُّف، على أن يضع بدل كلمة (بيع) كلمة (مشتري) ، فتعبير بكلمة (بيع) ووصفه له بأنه (يغلي السوم) لا يساند زعم الأزهري، لأن الاحتجاج ببيت الشماخ وهم وإنما يكشف مدى تمحل البعض حتى في تأويل الألفاظ اللغوية ابتغاء تكييفها مع ما يلتزمون به من أصول مذهبهم.