ومع هذا كله، فلم يثبت عنهم ولا عن احد منهم الخوض في اختلاف مطالع الهلال، إذ لو كان له أصل لأكثروا فيه الكلام وبينوا للناس ما يترتب عليه من أحكام الصيام، كما أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضوعه حديث واحد لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف، غير أن الفقهاء أخذوا القول به من مفهوم حديث ابن عباس مع كريب، لما قدم عليه من الشام وقال له: متى رأيتم الهلال؟ قال: رأيناه يوم الجمعة، قال: أنت رأيته؟ قال: نعم، رأيته وصام أمير المؤمنين وصام الناس معه، فقال ابن عباس: أما نحن فلم نر الهلال إلا ليلة السبت ونصوم حتى نراه أو نكمل عدة رمضان ثلاثين يوما فقال كريب: (ألا نكتفي برؤية أمير المؤمنين، فقال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يشير إلى حديث ((صوموا لرؤية وأفطروا لرؤيته)) وحديث: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين)) ، وهذا الرأى وهذا العمل وقع من ابن عباس – رضي الله عنه – موقع الاجتهاد وهو عين الصواب، يريد أن لا يخرج من الصوم إلا بيقين الفطر من الرؤية أو إكمال العدة، ولم يقل ابن عباس في حديثه مع كريب، بأن مطلع الهلال بالشام غير مطلعه بالحجاز، وإنما أخذوه على حسب الظن منهم فيه، فقالوا بموجبه، ثم أخذ بعضهم ينقل عن بعض القول به حتى اشتهر وانتشر ولعل ابن عباس لم يكن هذا مراده، وإنما أراد الأخذ بالحزم وأن يفطر على يقين من الرؤية أو إكمال العدة.
ومن المعلوم أن الفقهاء قد نصوا على انه لو رأى أحد هلال شوال بطريق اليقين فردت شهادته أو لم يشهد بذلك، وقد صام الناس من أجل أنهم لم يروا الهلال، فإنه يجب عليه أن يصوم مع الناس ولا يفطر في الراجح من الأقوال، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وفاقا للحنابلة، بل قد نصوا أيضا على أنهم لو صاموا رمضان بشهادة واحد ثلاثين يوما فلم يروا الهلال، فإنه يجب بأن لا يفطروا حتى يروه حتى ولو صاموا إحدى وثلاثين يوما. ذكره في الإقناع ومختصر المقنع وغيرهما، وهذا القول ينطبق على فعل ابن عباس – رضي الله عنه -.
ثم أن الكثيرين من شراح حديث ابن عباس مع كريب، قالوا: إنما رد ابن عباس شهادة كريب ولم يعمل بها، من أجل انه شاهد واحد والمفروض شاهدان، استحياطا لحفاظ هذه الفريضة، إذ ما كل ما يقال إنه رؤى في بلد كذا أن يكون صحيحا ثابتا ولا كون الرائي عدلا صادقا اللهم إلا أن يقال بثبوت وقوع التفاوت في المطالع بطريق اليقين بين الأقطار الأجنبية الواسعة والأقاليم الشاسعة، وأن مطلع الهلال فيها غير مطلعة في الجزيرة العربية وما جاورها، فعند ثباته يتعلق حكم كل قطر وكل إقليم برؤيته بنفسه والله أعلم.