للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالعرف الذي سلفت الإشارة إليه تمتاز نظريته عند الأصوليين بدقتها وأصالتها، ويعتبر من الأدلة التي تبنى عليها الأحكام، ويترك به القياس، وتخصص به النصوص عند جمهور الفقهاء، فينتج عن ذلك تغير الأحكام التي بنيت عليه إذا ما تغير العرف. يقول الإمام القرافي في الفرق بين قاعدة العرف القولي والعرف العملي عند الكلام على اعتبار العرف وتغيره: فمهما تجدد العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك فهذان والحق الواضح. والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين.

وابن القيم - رحمه الله- عند الكلام على تخير الفتوى واختلافها باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والبيئات والعوائد يقول: هذا فضل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به.

فالعرف يرجع في غالب صوره إلى المصلحة التي دعت إليها الحاجة فتكون مرتبته بين الأدلة مرتبة المصلحة: وهي قد تكون مرسلة أي لو لم تعارض دليلا من الأدلة الشرعية، وقد تكون معارضة لدليل آخر، فإن كان قياسا قدمت عليه، لأنها مصلحة محققة ومصلحة القياس محتملة، وإن كان نصا فإن كانت المعارضة كلية ألغيت وإن كانت جزئية خصص النص بها فيعمل بها في موضوع التعارض ويعمل بالنص فيما عدا هذا الموضع وإعمال الدليلين ما أمكن أولى من إبطال أحدهما.

والمصلحة التي دعت إليها الحاجة العامة أو الخاصة دليل من الأدلة التي يستند إليها في إثبات الأحكام، وهي ليست مجرد رأي، بل حدتها ثابتة بالنصوص الكثيرة النافية للحرج والداعية إلى التيسير وعدم التعسير، إضافة على أن من فوائد تعليل النصوص لكثير من الأحكام تبيان ما يترتب على الأفعال المأمور بها من مصالح وعلى المنهيات من مفاسد وهذا ما يجعل الحكم يتغير إن تغيرت مصلحته أو إن لم يحقق مقصود الشارع منه. يقول عز الدين بن عبد السلام: (كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل) (١) .


(١) قواعد الأحكام: ٢/١٢١.

<<  <  ج: ص:  >  >>