للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المقصد الثاني

الأخذ من الإنسان بعد موته

بقيت لدينا مشكلة ثانية: وهي أخذ المخ أو شيء من الجملة العصبية من إنسان بعد موته مباشرة وبعد تيقن موته بالطب الحديث وقبل فساد هذه الأجهزة في جسم الميت، فهل يجوز هذا النقل بالطب الحديث ووسائله لإنسان محتاج إليها؟ يبدو لي أن هذا أمر جائز بشروط.

الأول: أن يأذن من سيؤخذ منه المخ أو شيء من الجملة العصبية قبل موته وهو بالغ عاقل مختار أو يأذن أولياؤه بعد موته بذلك.

الثاني أن تكون فائدة العلاج يقينية أو غالبة على الظن، لا موهومة.

الثالث: أن يتعين ذلك، النقل للعلاج، فلو لم يتعين لا يجوز النقل.

الرابع: أن لا يكون ذلك معاوضة كبيع أو شراء أو هبة بمعنى المعاوضة أي (هبة صورية) كمن يهب دماغ أبيه ليهبه الآخر مبلغاً من المال أو متاعاً، بل يجب كون ذلك مجرد تبرع محمض ليس فيه أي معنى من معاني المعاوضات.

والشرط الأساسي كما قدمت هو القطع بموت الأول من الوجهتين الطبية والشرعية معاً، وتأصيل هذه الواقعة، أن الشارع الحكيم كرم الإنسان ميتاً كما كرمه حياً، وأن للإنسان الميت حقاً في المحافظة على بدنه بعد موته كما له الحق في المحافظة على كفنه وقبره، ففيه حق لله وحق للميت، أما حق الميت فقد سقط بإسقاطه له، وهو حي، وأما تكريمه فهو مصلحة، ومصلحة إنقاذ حياة الحي المضطر مصلحة أخرى، ولدى الموازنة بين المصلحتين تبين أن المصلحة الثانية أعظم فترجحت، لهذا اشترطنا في النقل للعلاج بعد موت الأول للدماغ والجملة العصبية ما اشترطناه من نقل سائر أجزاء الميت بعد موته، أن يكون حصوله متيقناً أو غالباً على الظن فيما تأكد نجاحه بحيث تكون نسبة النجاح سبعين بالمائة على أقل تقدير، وعدم جواز شيء من هذا النقل في ما كان أقل من هذه النسبة كما قرره وأفتى به أستاذنا العلامة الدكتور الشيخ أحمد فهمي أبو سنة، وإني في هذه المسألة ونسبتها أميل إلى ما مال إليه- حفظه الله- وأفتى به والله تعالى أعلم، وذلك خلافاً لما ذهب إليه مجمع الرابطة الموقر في مكة المكرمة في قراره رقم ٩٩ بشأن تبرع الحي بنقل عضو منه أو جزئه إلى مسلم مضطر إلى ذلك حيث أباح ذلك المجمع ولا أرى لذلك وجهاً صحيحاً والله تعالى أعلم.

خاتمة

بعد هذا الذي ذكرت أعود فأقرر أن المسألة بحاجة إلى درس وتمحيص يسبقهما ورع وتحوط لأن الكلام في الفتيا ليس كأي كلام في أي أمر، لهذا وجب سد الذرائع الفاسدة وما يوصل إلى المحرم، وإني هنا أعود لأضيق الأمر أكثر فأقول:

(إن هذه الفتيا بقسميها ليست إلا مخلصاً ومخرجاً من الحرج حالة الضرورة أو الحاجة مشروطة بشروطها) وما عدا ذلك فلا مجال للتوسع أبداً لأننا رأينا كيف صار في الغرب من تمييع للمفاهيم بحيث صار الناس يبيعون أعضاءهم بعد أن يؤمنوا عليها، بل رأينا لما أفتى بعض المفتين بجواز التشريح لجثث الموتى كيف اجتراً الناس على جثث الناس في المقابر وصاروا يشترونها بأبخس الأثمان ويسلقونها بالماء الساخن بالنار حتى ينبكت الجلد ويبقى العظم ثم يبيعونها بأغلى الأثمان وصار لها سوق سوداء ووسطاء وسماسرة، وصارت تجارة رائجة وحرفة، وأصل الأمر غير ذلك وأبعد من ذلك بكثير.

لذلك أناشد العلماء والمفتين أن يتحوطوا لدين الله ولا يترخصون إلا في موضع الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة في إباحة ما كان محظوراً، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات.

الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

<<  <  ج: ص:  >  >>