وهنا كان من المنطقي أن ينظر الفهم العلمي والشغف التجريبي إلى هذه الأجنة بفهم جديد، فمن طول ما كشفت التجارب من أن النتائج والمشاهدات في أجنة الحيوانات قد لا تكون بالضرورة مطابقة لما يحدث في الإنسان، تهلل الباحثون فها هو ذا جنين الإنسان نفسه وفي أبكر أطواره وغير محتاج إليه وهو بين أيديهم وفي خزائنهم، إنها إذن الفرصة الثمينة لدراسة النمو الباكر والتكون السوي وغير السوي وأثر الكيماويات والإشعاعات وتناول المادة الوراثية بالحذف منها أو الإضافة لها من مواد الوراثة في الإنسان أو الحيوان، هذا إذن بشير كنز من المعارف عن التخلق السوي وأسباب العيوب الخلقية ومحاولات إحداثها أو مداواتها دراسة مباشرة على الإنسان لا استقراء من الحيوان قد لا يصدق على الإنسان، وتحمس لهذه الفكرة قوم وتحمس ضدها قوم آخرون، أصحاب المدى السريع يرون باباً للوقاية من مرض، ومعارضوهم يرون على المدى الطويل أن استخدام الإنسان حيوان تجارب وخامة بحوث يطفىء الهالة من حوله وينال من الحرمة التي ينبغي أن تصونه - وإن فتش العلماء في قواميسهم عن معنى كلمة حرمة فلم يجدوا للكلمة أصلاً – وتوسطوا في بريطانيا فأوصت لجنة وارنوك بجواز التجارب في الأيام الأربعة عشر الأولى على اعتبار أن تكون الجهاز العصبي يبدأ بعدها، ولكن بقي الأمر يفور ويمور حتى بتت فيه ألمانيا الغربية حديثاً جداً بقرارها الذي صك أسماع العالم، فقد قررت ألمانيا الغربية حظر جميع التجارب على جنين الإنسان، أما بالنسبة للأجنة الفائضة في عمليات أطفال الأنابيب فإنها لم تكتف بمنع التجارب عليها فقط، وإنما حظرت إنشاءها أصلاً فعلى الطبيب ألا يعرض للمنويات إلا البويضات التي ينوي فعلاً إيداعها الرحم اذا افترض وأخصبت جميعاً ولا يتجاوز هذا العدد، فإن كان أكبر عدد يودعه الرحم أربعاً، فلا يعرض للإخصاب إلا أربعاً، فإن أخصب منها شيء أودعها جميعاً وإن هافت جميعاً أعاد المحاولة في الدورة التالية وهكذا، والذي يختزنه بالتبريد هو البويضات غير الملقحة إذن ليسحب منها، ولكن ليس الأجنة الباكرة حتى لا يكون الإنسان في أبكر أدواره حبيس المبرد إن لم يحتج إليه أو شهيد الإلقاء في البالوعة أو مادة للتجربة العلمية كما تكون حيوانات التجارب.
ولعل ألمانيا الغربية كانت أسبق إلى هذا القرار من فرط حساسيتها بشأن التجارب الطبية التي كانت تمارس على الأسرى والمعتقلين أيام الحكم النازي، فأكسبتها السوابق إحساساً خاصاً بقيمة الإنسان وحرمته، ولا ندري إن كانت ستتبعها دول أخرى فلا تخلو دولة من المنادين بمثل ذلك، ولكن قرارها يظل جريئاً ولو وحيداً وأرى نفسيتي الإسلامية والإنسانية تستريح إليه. والله أعلم.