فإن المناهج التي قامت عليها، والنمط الفكري والاجتماعي، والحقوق والواجبات، فيما تضطرب به الحياة باعتبار صدوره عن فكر يختلف جوهرًا وغاية، أحدث في العالم الإسلامي اضطرابًا. إذ معطيات الحضارة كان لها أثرها في العبادة، وفي الذات البشرية وفي العلاقات الاجتماعية. ففي العبادات مثلًا جدت قضايا كالصلاة في الطائرة. أو خارج كوكب الأرض والرؤية للهلال بعد استقلال الفلك عن التنجيم، وبلوغه درجة اليقين في مسائله وقواعده ونتائجه، وهل الإحرام يتم عند عبور الميقات جوًا، أو بجدة إلى آخره، وفي الميادين المتصلة بالذات البشرية تتلاحق المكتشفات، ففي الطب فرضت قضايا نفسها كنقل الأعضاء، ونقل الدم، وتحديد الموت، وأجهزة الإنعاش، وسوف يكون للجينات تأثيرات أوسع، ومدى أبلغ. وفي الميدان الاقتصادي تَعقَّد التعامل وتركبت العقود ولم يعد يسير العالم عقود بسيطة، بل ينحل العقد الواحد إلى عقود تتلاحم فيما بينها، فلا تجد لها في تاريخ التعامل شبيهًا ولا نظيرًا فقام لهذا الأمر الملك الصالح الملهم خادم الحرمين الشريفين، أجزل الله مثوبته وأدام عزته، وحفظ دولته، فوصل الرأي السديد بالدعوة إليه والعون، والتأييد، إلى أن ولد مجمعنا هذا، خدمة للدين الإسلامي. وتحقيقًا للقاعدة الأساس، إنه الدين الخاتم الصالح لكل زمان ومكان، الذي يحقق المعنى الرفيع من العبودية لله، والارتباط بجلاله، والخضوع الراغب لأمره ونهيه. فأرجوكم صاحب السمو أن تبلغوا جلالته ما يقربه عينًا من وضع المجمع، وهو يدرج ناميًا في عقده الثاني، متطورًا في نهج الحق يحفه عون سام ومدد ذكي رباني. وهل يتصور لقاء متجدد أنصع مظهرًا، وأنبل وأتقى مخبرًا، من مجمعنا هذا في دوراته. يشهد الله أنه عقد بين أعضائه الذين يمثلون أصدق تمثيل العالم الإسلامي، في قلبه وجنباته، عقد بينهم صلة مودة في الله، وتعاونًا يبلغ بهم الاطمئنان، حتى غدا كل واحد يرى في أخيه مكملًا لذاته، لا يتم له ما يريد من الحق، إلَّا بالرأي والدليل الذي يسهم به صنوه، والبحث المعمق الذي يقدمه زميله. فأصبحنا بنعمة ربنا إخوانًا. وصدرت قرارات المجمع مستندة أولًا إلى البحوث التي أعدت في سعة من الوقت ليس فيها أحد معجلًا ولا عجولًا، ثم إلى مناقشات علمية رفيعة المستوى، تنشطها الرغبة في رضوان الله. ثم تدقيق في صياغتها، وحساب ناقد لكل لفظة وتركيب. فكانت قرارات مجمعية قوية الأساس واضحة الصيغة، مطهرة من الأهواء. وقرارات المجمع تفرض أولًا على كل عالم ومفت أن يحترمها والحق فوق كل أحد. فقد يتوقف عالم في الاقناع بما أصدره المجمع وله ذلك. ولكن الأمانة تقتضي منه أن لا يعلن رأيًا مخالفًا للبارقة التي قد تكون خليًّا، ولا يأخذ أحدنا العزة بالرأي بل يقدم لأمانة المجمع ما انتهى إليه بمستنداته. ليراجع أعضاؤه على ضوء ما يبسطه قرارهم. فإن الحق قديم لا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل كما قال عمر الفاروق رضي الله عنه. وما كان لتلكم القرارات التي ألتمس المعذرة إن قصر لفظي عن تجلية قيمتها العلمية. ما كان لها أن يكتب لها الظهور، لولا سندها في سماحة رئيسها الجامع بين العلم وبعد النظر، والصبر والنباهة، وحضور الذهن. فندعو الله له بالعون وحسن الجزاء.