إن مجمعنا هذا لهو تجسيم لإرادة نبعت من ضمير الأمة الإسلامية، ومظهر شعور حاد بالحاجة إلى بحوثه ومناقشاته، المولدة للقرارات التي ينتهي إليها مطمئنًا. ويصوغها ضابطًا محكمًا. ذلك أن الله كلف هذه الأمة بتبليغ أمانة شريعته. ترددت بذلك أصداء صوت النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم في فضاء مني، يوم النحر، ليبلغ الغائب من شهد وحضر، ورحمة من رب العالمين، وإكرامًا آخر لأمة سيد المرسلين، تكفل سبحانه بحفظ وحيه. إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون. فكان بذلك لعلماء الأمة من نصوص الوحي الثوابت، التي تضمن الوحدة بين عصر النبوة وما يليه من الأعصار. وكان لهم بما كلفوا به من إعمال النظر والإجتهاد في نصوصه، العهد الذي وفوا به وما نكثوا. وطبقوا عمليًّا القاعدة الضامنة لمواكبة التشريع للحياة وتحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا. وإذا كانت الحضارة في مختلف أوجه النشاط البشري في عهود سيادة الأمة الإسلامية، كانت نتاجًا للصياغة التي صاغ عليها الإسلام مجتمعه. فكانت التطورات الحاصلة مصطبغة عند تولدها بصبغة الذين أحدثوها وأبرزوها للوجود، وعملوا على إعطائها مقوماتها الخاصة، باعتبار أنها في شكلها وفي بيئتها إسلامية المنشأ، إسلامية التصور تلتصق بها مع ولادتها الأحكام المستمدة من الوحي، تطبيقًا لنصه أو استنباطًا معمّمًا باللفظ أو بالمعنى. فكان الفقه والتطور الحضاري متلازمين قرينين لا ينفك أحدهما عن الآخر.
ولله الأمر من قبل ومن بعد. انقلب حال الأمة الإسلامية من فحولة العطاء، إلى فسولة الأخذ والتلقي. فانهالت عليها منتجات الحضارة التي لم ترتبط بالله. منشأ ولا غاية. وتراكمت مستجداتها في كل ميدان من ميادين الحياة. وكان التحدي الذي ما عرفته الأمة في تاريخها. وإنه وإن كان إقبالها على ما أنجزته في المرافق المادية سهلًا. وتعامُلُها معها بالتقليد أو الاستعمال ميسورًا.