للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتذكر لنا كتب علم الحديث، ولا سيما كتب طبقات المحدثين، قصصا كثيرة عن هذه الرحلات الشاقة التى قاموا بها «طلبا للعلم» أنها «رحلة العلم» بهدف الحصول على إجازات برواية أكبر عدد ممكن من الكتب والأحاديث على أفضل وجه ممكن أى سماع أو قراءة. وهذه الأخبار ذات طابع قصصى وتسببت فى سوء فهم، فقد فهم منها أنه كان عليهم أن يجمعوا الأحاديث المحفوظة فى ذاكرة الرواة المتفرقين فى أنحاء العالم (الإسلامى) ليدونوها لأول مرة (١٩٨).

ونود أن نبحث فى إيجاز بعض القضايا المرتبطة بأهمية الذاكرة فى الرواية. فلا بد أولا وقبل كل شئ- أن نستخرج الدلالة الصحيحة للأخبار التى تروى كثيرا أن هذا المحدث أو ذاك، قد حفظ مائتى ألف حديث مما يجعلنا نقابل ذلك فى عصرنا هذا إما بالإعجاب/ بالذاكرة الممتازة للانسان فى تلك العصور، وإما باعتبار هذا نوعا من المبالغة أو بطرحه جانبا وكأنه أسطورة خيالية. ورغم أن المبالغة فى هذا الرقم بديهية فى معظم الأحوال، إلا أننا نعرف من البحث الدقيق لكتب الحديث أن الروايات المختلفة للحديث الواحد تدخل أيضا فى هذا العدد، وهى لا تختلف عن بعضها البعض إلا اختلافا يسيرا فى الإسناد ولذلك فكل رواية تعد مستقلة عن الأخرى وبذلك يصبح عدد النصوص فعلا بضة آلاف.

وهنا نهتم اهتماما خاصا بدور الذاكرة وهو دور أدركه الباحثون المحدثون إدراكا خاطئا، كان له أثر حاسم فى التصور غير الصحيح عن تطور كتب الحديث وفى التفسير الخاطئ للأخبار إلى حدّ ما. فعلى سبيل المثال قال معاصر لوكيع (المتوفى ١٩٦ هـ/ ٨١١ م): «رأيت وكيعا، وما رأيت بيده كتابا قط، إنما هو يحفظ» (١٩٩) وكان يعنى بهذا أنه كثيرا ما رأى وكيعا فى مجالس العلم، ولكنه لم ير معه أصولا مدونة فقد كان يروى من حافظته. وسنناقش فيما بعد قضية رواية المحدثين دون استخدام أصول مدونة بأن نبين مداها وزمنها. إن وكيعا اشتهر بذاكرة قوية غير عادية، ولكن ترجمة جولد تسيهر


(١٩٨) سزكين فى كتابه عن مصادر البخارى Sezgin ,Buh.Kayn.٣١ - ٣٣
(١٩٩) التهذيب لابن حجر I.Goldziher ,Muh.Stud.II ,١٩٧ ١٢٩ /١١

<<  <  ج: ص:  >  >>