للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إمساك البائع المبيع لضمان التسديد:

وقد اطلعت على صورة من المعاملات المعاصرة الجارية بين الناس، وهي أن البائع في البيع المؤجل يمسك المبيع عنده إلى أن يتم التسديد من قبل المشتري، أو إلى أن يتم تسديد بعض الأقساط.

وإن إمساك المبيع بيد البائع في هذه الصورة يمكن أن يتصور بطريقتين:

الأول: أن يكون على أساس حبس المبيع لاستيفاء الثمن.

والثانى: أن يكون بطريق الرهن، والفرق بين الصورتين أن المبيع المحبوس عند البائع مضمون عليه بالثمن، لا بالقيمة، فلو هلك المبيع وهو محبوس عنده، ينفسخ البيع، ولا يكون مضمونًا عليه بقيمته السوقية، أما في الرهن، لو هلك عند البائع بغير تعدٍّ منه، لا ينفسخ البيع، بل يهلك من مال المشتري، ولا يقسط الثمن، وإذا هلك بتعد منه، يضمنه المرتهن بقيمته السوقية، لا بالثمن.

فأما الطريق الأول، وهو حبس البائع المبيع لاستيفاء الثمن، فإنه لا يجوز في البيع بالتقسيط، لأن البيع بالتقسيط بيع مؤجل، وإن حق البائع في حبس المبيع لاستيفاء الثمن إنما يثبت في البيوع الحالة، وليس له ذلك في البيوع المؤجلة، جاء في الفتاوى الهندية:

(قال أصحابنا رحمهم الله تعالى: للبائع حق حبس المبيع لاستيفاء الثمن إذا كان حالًّا، كذا في المحيط، وإن كان مؤجلًا فليس للبائع أن يحبس المبيع قبل حلول الأجل ولا بعده، كذا في المبسوط) (١) .

وأما الطريق الثاني، وهو أن يمسك البائع المبيع عنده بصفة كونه رهنًا من المشتري بالثمن الواجب في ذمته، فإنه يمكن بطريقين أيضًا:

الأول: أن يرهنه المشتري قبل أن يقبضه من البائع، فهذا لا يجوز أيضًا، لأنه في معنى حبس المبيع عند البائع لاستيفاء الثمن، وذلك لا يجوز في البيوع المؤجلة، كما ذكرنا.

والثاني: أن يقبضه المشتري من البائع أولًا، ثم يرده إليه بصفة كونه رهنًا، فهذا جائز عند أكثر الفقهاء رحمهم الله تعالى، قال الإمام محمد في الجامع الصغير:

(ومن اشترى ثوبًا بدراهم، فقال للبائع: أمسك هذا الثوب حتى أعطيك الثمن، فالثوب رهن) .

ونقله المرغيناني في الهداية، وقال شارحها في الكفاية: (لأن الثوب لمَّا اشتراه وقبضه، كان هو وسائر الأعيان المملوكة سواء في صحة الرهن) (٢) .

وذكر الحصكفي هذه المسألة في الدر المختار، وأوضحها بقوله: (ولو كان ذلك الشيء الذي قال له المشتري: أمسكه، هو المبيع الذي اشتراه بعينه، لو بعد قبضه، لأنه حينئذ يصلح أن يكون رهنًا بثمنه، ولو قبله لا يكون رهنًا، لأنه محبوس بالثمن) . وقال ابن عابدين تحته:

(قوله: " لأنه حينئذ يصلح ... إلخ "، أي لتعيين ملكه فيه، حتى لو هلك يهلك على المشتري، ولا ينفسخ العقد، قوله: " لأنه محبوس بالثمن "، أى وضمانه يخالف ضمان الرهن، فلا يكون مضمونًا بضمانين مختلفين، لاستحالة اجتماعهما، حتى لو قال: أمسك المبيع حتى أعطيك الثمن قبل القبض، فهلك، انفسخ البيع، زيلعي) (٣) .

والذى يظهر أن جواز مثل هذا الرهن ليس فيه خلاف بين الفقهاء المتبوعين إذا لم يكن هذا الرهن مشروطًا في صلب عقد البيع، أما إذا كان مشروطًا في صلب العقد فقد حكى ابن قدامة رحمه الله: (وإذا تبايعا بشرط أن يكون المبيع رهنًا على ثمنه، لم يصح، قال ابن حامد رحمه الله، وهو قول الشافعي، لأن المبيع حين شرط رهنه لم يكن ملكًا له، وسواء شرط أنه يقبضه ثم يرهنه، أو شرط رهنه قبل قبضه ... وظاهر الرواية صحة رهنه ... فأما إن لم يشترط ذلك في البيع، لكن رهنه عنده بعد البيع، فإن كان بعد لزوم البيع، فالأولى صحته، لأنه يصح رهنه عند غيره، فصح عنده كغيره، ولأنه يصح رهنه على غير ثمنه، فصح رهنه على ثمنه، وإن كان قبل لزوم البيع انبنى على جواز التصرف في المبيع، ففي كل موضع جاز التصرف فيه وجاز رهنه، ومالًا فلا، لأنه نوع تصرف فأشبه بيعه) (٤) .


(١) الفتاوى الهندية: ٣/١٥، باب ٤، من كتاب البيوع.
(٢) الكفاية شرح الهداية بهامش فتح القدير: ٩/٩٩.
(٣) رد المحتار مع الدرالمختار، كتاب الرهن: ٦/٤٩٧، طبع كراتشي.
(٤) المغني، لابن قدامة: ٤/٤٢٧ و ٤٢٨، كتاب الرهن، دار الكتاب العربي، بيروت ١٣٩٢هـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>