لم يكن التوثيق في اعتبار الشارع مطلوبًا ولا سائغًا في كل ما يسمى عند الناس معاملة، وإنما هو في المعاملة التي اعترفت بها الشريعة، وسوقتها وسيلة لتبادل الأموال والمنافع، حتى يكون التوثيق مبنيًا على أصل صحيح، ومن القواعد المشهورة: أن المبني على الفاسد فاسد، أو أن الفاسد لا ينبني عليه صحيح.
وعلى ضوء ذلك تكون المعاملات الباطلة بمعزل عن رعايتها بطلب التوثيق فيها، بل الشارع يزجر عنها، ويدعو إلى التنصل منها، فلو أن مسلمًا باع خمرًا أو خنزيرًا لمسلم آخر فقد تعاملا في غير مال محترم وذلك غير مشروع بأصله، ومهما بلغ الثمن حالًّا أو مؤجلًا فلا موضع هنا للتوثيق، لأنها معاملة محظورة لا تكسب حقًّا، وقس على ذلك كل معاملة في محظور.
أما حينما تصح المعاملات باستيفائها للشروط الفقهية، وتكون سبيلًا إلى تملك العين وثمنها في المبيعات وسيرًا إلى استحقاق الأجرة والمنفعة في الإجارات تصبح محلًّا للتوثيق وتنبني عليه آثاره.
وسائل التوثيق:
وبالنظر في الوسائل المؤدية للغاية المنشودة من التوثيق، - نرى بعد الاستيعاب الممكن – أن وسائل التوثيق التي عرض لها القرآن الكريم أو ورد ذكرها في السنة، ودارت على ألسنة الفقهاء، نجد أن بعض هذه الوسائل تؤدي غايتها باعتبارها متينة للحق: كالكتابة والبينة، والإقرار، واليمين والقرائن، ونجد بعضها يؤدي غايته باعتباره تأمينًا للحق الثابت بإحدى تلك الوسائل: كالرهن والضمان والكفالة،ونجد بعضًا ثالثًا يؤدي غايته باعتباره تنفيذًا لاستيفاء الحق: كالحجر، والحبس والملازمة والغرض العام منها جميعها: هو ضبط المعاملات وصيانة الحقوق المالية من الضياع.