ذهب فريق منهم ابن قدامة حيث يقول:(ويختص ذلك – أي التوثيق – بما له خطر، فأما الأشياء القليلة الخطر كحوائج البقال والعطار وشبهها فلا يستحبُّ فيها لأن العقود فيها تكثر فيشق الإشهاد عليه، وتقبح إقامة البينة عليها والترافع إلى الحاكم بخلاف الكثير) . ووجاهة هذا الرأي واضحة ظاهرة جدًّا في زماننا هذا من حيث ضيق وقت الناس وعدم تعارفهم وكثرة المشتريات والمبيعات ولأن التجارة مبنية على سرعة الإنجاز والانشغال بالتوثيق في كل شيء قد لا يسمح بإدارتها على الوجه الأكمل والمطلوب ولذلك خفف الله تعالى عن الناس باستثنائه التجارة الحاضرة.
وذهب فريق إلى وجوب الإشهاد في كل شيء. قال ابن جريج: سئل عطاء: أيشهد الرجل على أن بايع بنصف درهم؟ قال: نعم، هو تأويله قوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} .
وذهب فريق إلى الندب في القليل والكثير وهو رأي الجمهور الذي بيناه سابقًا والواقع أن للعرف بين الناس حسبما تقتضي عوائدهم وأحوالهم أثرًا كبيرًا في تحديد القدر الذي يتعلق به التوثيق الواجب والمندوب والمباح ومما نراه أن خمسة وعشرة ريالات قد تعتبر دينًا تافهًا عند الناس وبعضهم يراه خطيرا بحسب أحوالهم ونفسياتهم وماديتهم ... وقد احتكمنا إلى العرف من قبل في تقدير المهر والنفقات وقيم المتلفات وبه نهتدي في تقدير ما يجب وما يباح وما يندب إليه في التوثيق وقد أقرت الشريعة العمل بالعرف الصحيح كأصل من أصولها تيسيرا على الناس وإفساحا لهم في مجال الحياة، فرجوعنا إليه وتحكيمه يعتبر عملًا بأصل مشروع.
ومع هذا فإني أرى أن الورع والتقوى وتعظيم قول الله تعالى:{وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} يقتضي كتابة كل دين صغيرًا أو كبيرًا ... ولعل تقديم ذكر "صغيرًا " في الآية يؤكد هذا الذي ذهبنا إليه.