وهذه المسألة مذكورة في الدر المختار، وقد شرحها ابن عابدين، يقول: اشترى شيئًا بعشرة نقدًا وباعه لآخر بعشرين إلى أجل هو عشر أشهر، فإذا قضاه بعد تمام خمسة أشهر أو مات بعدها، يأخذ خمسة ويترك خمسة. وإن هذه الفتوى من متأخري الحنفية تفرق بين بيوع المساومة وبيوع المرابحة التي يصرح فيها البائع بزيادة الثمن بسبب الأجل، فلا يجوز ضع وتعجل في بيوع المساومة كما أسلفنا، ويجوز في بيوع المرابحة، ولعلهم أفتوا بذلك على أساس أن الأجل وإن لم يكن صالحًا للاعتياض عنه على سبيل الاستقلال، ولكن يجوز أن يقع بإزائه شيء من الثمن ضمنًا وتبعا. فما لا يجوز بيعه مستقلًّا، قد يجوز الاعتياض عنه تبعًا. ولما كان أساس المرابحة المؤجلة على بيان قدر من الربح، جاز أن يكون شيء من الربح بإزاء الأجل، فصار الأجل كأنه وصف في المبيع فلما انتقص ذلك الوصف بأداء الدين قبل الحلول، أو سبب حلوله بموت المديون، انتقص الثمن بقدره. وإلى هذا المعنى أشار ابن عابدين في تعليل هذه المسألة.
وهذا التوجيه، وإن كان فيه شيء من الوزن، ولكنه مخالف للدلائل التي أسلفناها في منع ضع وتعجل، فإنها وردت في كل دين مؤجل، دون فرق بين المساومة والمرابحة، وإن العمل بهذه الفتوى قد يجعل المرابحة والبيع بالتقسيط أكثر مشابهة بالمعاملات الربوية، التي يتردد فيها القدر الواجب في الذمة ما بين القليل والكثير مرتبطًا بالآجال المختلفة للأداء، فلا أرى من المناسب العمل بهذه الفتوى في البيع بالتقسيط، ولا في المرابحات التي تجريها المصارف الإسلامية اليوم.
الآن المسألة الرابعة المطروحة في هذه الدورة، هي مسألة خراب الذمة وأثر موت المديون في حلول الدين، وهذه المسألة مذكورة في الصفحة الثانية والأربعين من بحثي (١) . والمسألة: هل يبقى الدين بعد موت المدين مؤجلًا كما كان، أو يصير حالًّا، فيطالب الدائن الورثة بأدائه من تركة الميت فورًا، أو يطالبه بعد حلول الأجل؟. وقد اختلف في هذه المسألة أقوال الفقهاء، فذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والمالكية إلى أن الدين المؤجل يحل بموت المدين، وهو رواية عن الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله أيضًا، ولكن المختار عند الحنابلة أن الورثة إن وثقوا الدين، فإنه لا يحل بموت المدين، و، إنما يبقى مؤجلًا كما كان، قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: فأما إن مات وعليه ديون مؤجلة، فهل تحل بالموت؟ فيه روايتان: إحداهما لا تحل إذا وثق الورثة، وهو قول ابن سيرين وعبد الله بن الحسن وإسحاق وأبي عبيد، وقال طاووس وأبو بكر بن محمد الزهري وسعيد بن إبراهيم: الدين إلى أجله، وحكي ذلك عن الحسن، والرواية الأخرى، أنه يحل بالموت، وبه قال الشعبي والنخعي وسوار ومالك والثوري والشافعي، وأصحاب الرأي، لأنه لا يخلو، إما أن يبقى في ذمة الميت أو الورثة، أو يتعلق بالمال، ثم ذكر ابن قدامة رحمه الله ترجيحه لمذهب من يقول ببقاء الدين مؤجلًا، إذا وثقه الورثة بكفيل أو رهن، وذكر دلائله.