تعارف الناس عقد الاستصناع من القديم قبل الإسلام، وذلك لأن الحاجة إليه مرتبطة بأسباب طبيعية عامة، وإن الحاجة، كما يقال، هي أم الاختراع. وينطبق ذلك على العقود بوجه عام، فإن كل عقد إنما ولد وتعورف طريقًا لتحقيق غاية اشتدت حاجة المجتمع إليها. وقد ولد عقد الاستصناع من الحاجة إليه في حياة اجتماعية آخذة في التحضير كما ولد ونشأ غيره من العقود.
فحاجة الإنسان في حياته البدائية الأولى إلى سلعة ليست عنده، وهي موجودة عند غيره، لما اشتدت فتح لها باب (المقايضة) التي هي أقدم صور مبادلة المال بالمال عينًا، والتي هي أصل البيع والشراء بالتراضي.
ثم لما لم تعد المقايضة كافية لتلبية الحاجة المستمرة في الاتساع، بسبب ضيق النطاق المتاح في المقايضة بين السلع المتعادلة، ابتكرت النقود في صورتها البدائية، فأصبح التبادل المتعادل ممكنًا بين السلعة المطلوبة لراغبها ومقدار من النقود المتعارفة المقبولة معادل لها، فانحلت صعوبة المقايضة بفتح باب لبيع السلع وشرائها بالنقود. وهذا الفتح الجديد قد ولد حاجة جديدة إلى جعل قطع النقود متفاوتة حجمًا وقيمة بحسب حاجة المبادلة وحجمها، فنشأ من ذلك عقد الصرف، لمبادلة القطع الكبرى من النقود بقطع أصغر، وهكذا ...
ثم لما كثرت حاجة الأفراد الذين يحتاج أحدهم إلى ما عند غيره من السلع الاستعمالية الخادمة لكي يستعملها مدة قصيرة فقط، ورؤي أن شراء كل ما يحتاج إليه لمدة قصيرة هو أمر عسير جدًّا غير مستطاع، تولد من هذه الحاجة عقد يستطيع الإنسان فيه أن يدفع جزءًا يسيرًا من قيمة السلعة التي يريد استعمالها لمدة قصيرة يعادل المنفعة المحدودة الموقوتة التي يريدها من السلعة، فتولد وتعورف العقد الذي سمِّيَ فيما بعد بالإجارة التي لولاها لاضطر كل ذي حاجة إلى سلعة عند غيره لمدة موقوتة أن يشتريها بكامل ثمنها ثم يطرحها.
ثم لما اتسع نطاق التعامل في كل مجتمع، وظهرت التجارة لتوفير أنواع السلع لمحتاجيها، وأخذت طريقها في الاتساع، لجأ التجار إلى المداينة والائتمان عندما يكون المشتري ليس لديه حين الشراء كامل الثمن، فيمهله البائع طمعًا في توسيع دائرة زبائنه وأرباحه، ويستوفي منه فيما بعد، وظهر بذلك للمداينة مصلحة للطرفين يدور بها دولاب التجارة وتعظيم مردوداته.
لكن إبليس للإنسان بالمرصاد، فأخذ يلعب بعقول بعض الناس مستغلًّا ما عندهم من غريزة الطمع، فأصبح بعض المدينين لا يؤدي دينه في ميعاده، أو يحاول أكله بشتى الأساليب والوسائل وحرمان صاحبه الذي وثق به من حقه، فكثر فساد الذمم لدى بعض الناس من أمثال ذلك القائل: