إني وجدك لا أقضي الغريم وإن
حان القضاء وما رقت له كبدي
إلا عصا أرزن طارت برايتها
تنوء ضربتها بالكف والعضد
[روى هذين البيتين ابن منظور في لسان العرب، مادة (رزن) والأرزن شجر صلب العود تتخذ منه العصي] .
واشتدت الحاجة إلى وسيلة لضمان الوفاء، فتولد عقد الرهن لتوثيق الحقوق، وهلم جرا ...
وهكذا نرى أن العقود التي تعارفها الناس في مجتمعاتهم، وتكونت منها طرق التعامل المتشابكة والائتمانات والضمانات لم تنشأ دفعة واحدة، كما يدون نظام تعاملي اليوم في قانون مكتوب يصدر كاملًا، وإنما تولدت ونشأت على التوالي، وتطورت أحكامها الفرعية بحسب الحاجة.
وينطبق ذلك على عقد الاستصناع موضوع بحثنا هذا، فقد تولد وتعارفه الناس في مجتمعاتهم من القديم لظهور الحاجة الشديدة إليه في النطاق الشخصي، ذلك أن لأفراد الناس في كل مجتمع بعض حاجات تختلف بطبيعتها بين فرد لآخر، فما يصلح منها لواحد لا يصلح لغيره:
فالحذاء الذي يحتذيه الشخص في قدميه مثلًا لا يمكن أن يصلح فيه مقاس واحد حجمًا وشكلًا لأي كان، لا خلاف أقدام الناس رجالًا ونساء، ولا سيما أيضًا بسبب اختلاف الأعمار.
وكذلك الملابس، فالشخص الجسيم أو الطويل لا يصلح له ما يصلح للنحيف أو القصير، والخاتم الذي كانت تختم به الرسائل منقوشًا عليه اسم صاحبه، لا يصلح لغير صاحبه.
أضف إلى ذلك اختلاف الأذواق والرغبات بين الأشخاص: فالحلي التي تصنع من المعادن النفيسة وترصع بالأحجار الكريمة للتزين قد يريد محتاجها شكلًا أو لونًا غير ما يريده سواه ويهواه ذوقه.
لذا ظهرت الحاجة واشتدت من القديم إلى أن يوصي الإنسان على بعض أشيائه الخاصة وفق ما يلائم حاجته وذوقه من الأوصاف، لدى من يصنعها له من محترفي صناعتها، بمادة وعناصر من عند صانعها، وبثمن معين في مدة يتفق عليها، وذلك لصعوبة تجميع تلك العناصر، وبالمقادير التي تحتاج السلعة من قبل راغبها.
هذه هي الصورة الأصلية لعقد الاستصناع، والحاجة التي دعت إلى تعارفه، لأن عقد البيع بصورته العامة التي يتعاقد فيها الناس على البيع والشراء في سلع مهيأة جاهزة لم يكن ليلبي جميع احتياجات الناس المختلفة من وجوه عديدة، لاختلاف الحاجات ذاتها، واختلاف الأذواق والمشارب، والرغبات والمطالب.