إن تلك الشبكة الهائلة من المصنوعات المشار إليها، والتي في أغلب الأحيان يحتاج إلى التعاقد عليها قبل وجودها، كان الطريق إليها في فقه الشريعة ينحصر في عقد السلم الذي أجيز في بيع المعدوم الذي يمكن وجوده أو إيجاده في المستقبل استثناء من قاعدة عدم جواز بيع المعدوم لما يحفه من الغرر، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يبيع الإنسان ما ليس عنده ورخص في السلم استثناء.
وهذا الاستثناء للسلم واضح الحكمة وعظيم الأهمية في الميزان الاقتصادي، فإن عنصري الإنتاج اللذين لا بد من اجتماعهما لتحققه، وهما رأس المال والعمل، قد يفترقان في كثير من الأحيان فيتعطلان، حيث يوجد المال في يد عاجزة عن استثماره ومداولته في طريق الإنتاج، وتوجد اليد القادرة على الإنتاج ولكنها محتاجة إلى رأس المال.
فإباحة بيع المعدوم الذي يمكن أن ينتجه المعدم المحتاج إلى رأس المال بقبض ثمنه مسبقًا للتمكن من إنتاجه تتيح اجتماع عنصري الإنتاج المفترقين، هذا إلى جانب فوائد أخرى اقتصادية معروفة لعقد السلم.
لكن هذا المشكل الاقتصادي الذي حله عقد السلم في الماضي لم يعد كافيًا لوفاء الحاجة الاقتصادية العامة في عصرنا الحاضر. ذلك لأن عقد السلم يشترط شرعًا لصحته تعجيل ثمن المبيع المعدوم، لأنه إنما استثنى من القاعدة بغية جمع عنصري الإنتاج المفترقين، كما أوضحنا، وذلك بنص الحديث النبوي الثابت، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ، أي الدين المؤجل في الذمة، بدين مؤجل أيضًا في الذمة. والمبيع في السلم دين مؤجل ملتزم في الذمة، لأنه معدوم سوف يعمل البائع على إيجاده بمعونة الثمن (رأس المال) ، فإذا كان الثمن أيضًا مؤجلًا ملتزمًا في الذمة (غير مقبوض) ، فقد أصبح كالئًا بكالئ، وانتفت الحكمة من إباحة السلم استثناء من قاعدة عدم جواز بيع المعدوم للحاجة الاقتصادية العامة، وضاعت الفرصة التي أتيحت لتيسير عملية الإنتاج، وانقلب الموضوع إلى مضاربة بالأسعار المستقبلة. فإذا ارتفعت الأسعار أو هبطت استفاد أحد الطرفين، دون أن يخدم عملية الإنتاج التي هي المصلحة الاقتصادية الحيوية الحقيقية للمجتمع، كما يجري اليوم في البورصات العالمية حيث يتعاقد فيها على كميات خيالية من السلع المؤجلة، بأسعار وأثمان مؤجلة، لا يقصد بها إنتاج ولا تسليم، بل مجرد مضاربة بالأسعار، ثم المحاسبة في الموعد على فرق السعر الذي يربحه أحد الطرفين في حالة ارتفاع السعر أو هبوطه، وهي عملية، كما يرى، أشبه بالمقامرة منها بالنشاط الاقتصادي. والإسلام إنما يهدف إلى تحقيق المصالح الصحيحة، فيفتح لها الأبواب التي تنتج نفعًا للمجتمع، ويغلق أبواب المضاربة بالحظوظ التي تغري بالكسل، وتقعد الفرد عن العمل، اعتمادًا على الحظ المحتمل.
فبسبب اشتراط تعجيل رأس المال لصحة عقد السلم يرى أنه في العصر الحاضر الذي اتسعت فيه شبكة السع الصناعية ذلك الاتساع الهائل، واتسع إلى جانبها نظام الائتمان (المداينة) الذي أصبح كالجملة العصبية المنبثة في الجسم، داخلة في كل جزء من أجزائه، ومسيطرة على حركته ونشاطه، في مثل هذا العصر المتطور. لم يعد عقد السلم، الذي لا يصح إلا بتعجيل رأس المال، كافيًا في وفاء حاجة التعامل المتطور. فلا بد أن يقوم إلى جانبه طريق آخر لا يشترط فيه هذا الشرط.
وبالفعل قد وجدنا في أساليب التعامل التي أقرتها الشريعة السمحة الغراء ذلك الطريق الآخر المنشود وهو عقد الاستصناع.