تعريف عقد الاستصناع:
اختلف أنظار الفقهاء في الاستصناع وطبيعته: هل هو مجرد وعد من شخص لآخر، أو هو عقد ذو طرفين ينشأ بإيجاب وقبول منهما. ومن يرى أنه عقد هل هو عنده عقد معاوضة ملزم لطرفيه بمجرد الانعقاد الصحيح، أو عقد غير ملزم كالوكالة مثلًا والإيداع والإعارة؟
إن غير الحنفية يذكرون الاستصناع في كلامهم على بيع السلم ولا يذكرون له تعريفًا مستقلًّا يبين له ماهية خاصة، وإنما يذكرونه في عقد السلم فيما إذا بيع شيء موصوف في الذمة مما يصنع، فيعتبرونه سلمًا في المصنوعات، (بينما السلم بوجه عام لا يختص بالمصنوعات) . لذا يشترطون لصحته أن تتوافر فيه شرائط السلم جميعًا، وفي طليعتها تعجيل الثمن. فليس له تعريف خاص عندهم يميزه بماهية عقدية وموضوع مستقلين، ويصرحون بعدم جوازه وصحته إذا لم تتوافر فيه شرائط السلم.
ومعنى ذلك أنه عندهم عقد من العقود الثنائية الطرف ويحتاج إلى إيجاب وقبول صحيحين لانعقاده، فليس مجرد وعد من طرف واحد لآخر لا يلزمه، ويبقى معه مختارًا في التنفيذ وعدمه، ولكنه ليس عقدًا مستقلًّا بل صورة من بيع السلم تخضع لشروطه، ويجري عليها حكمه.
أما الحنفية فيهم الذين اعتبروه عقدًا ونوعًا من البيع خاصًّا متميزًا بأحكامه كما تميز الصرف والسلم وهما من البيوع، وليس سلمًا، وإن يكن له به شبه. وهو أيضًا استثناء من عدم جواز بيع المعدوم للحاجة العامة إليه، بل هم يدعون الإجماع على جوازه. وهذا هو الرأي الراجح عند الحنفية، وإن كان منهم من يرى أنه مجرد وعد من شخص لآخر، مستدلًّا بأدلة ضعيفة لا تنهض حجة لنفي صف العقدية عنه.
وواضح أن من يرونه وعدًا محضًا لا تعريف له عنده يخرج به عن مفهوم الوعد بوجه عام، وهو: أن يعلن شخص لآخر ما سيفعله لأجله أو لمصلحته في المستقبل. وقد يكون الشيء الموعود به عملًا ما أو عقدًا من العقود. فإذا كان الأمر الموعود به عقدًا ما فلا بد لوجوده وانعقاده من أن ينشأ فيما بعد بالتراضي بصورة صحيحة، أي مستوفيًا ركنه وسائر شرائط انعقاده.
أما الذين يرون الاستصناع عقدًا، وهو الراجح في المذهب، لمتانة أدلته، وبه أخذت المجلة كما سنرى. فقد عرفوه بتعاريف عديدة متقاربة. فقال بعضهم: الاستصناع هو: " أن يطلب شخص من صانع أن يصنع له شيئًا بثمن معلوم " (العيني في شرح الكنز) .
وهذا التعريف قاصر لأن الطلب ليس عقدًا، فكأنما هو تفسير لكلمة الاستصناع، وليس تعريفًا لعقده.
وقال ابن عابدين في رد المحتار: " هو أن يطلب أحد من آخر العمل في شيء خاص على وجه مخصوص " وهذا قاصر أيضًا وغير سديد، وتدخل فيه الإجارة فهو غير مانع. وقد عرفته المجلة بأنه: " عقد مقاولة مع صاحب الصنعة على أن يعمل شيئًا ". وهناك من المعاصرين من عرفوه تعريفات أخرى متقاربة لا نراها دقيقة ولا وافية. لذلك نرى أن نعرفه بصورة أوضح وأوفى كما يلي:
" هو عقد يشترى به في الحال شيء مما يصنع صنعًا يلتزم البائع بتقديمه مصنوعًا بمواد من عنده، بأوصاف معينة، وبثمن محدد ".
هذا ويسمَّى المشتري: مستصنعًا، والبائع: صانعًا، والشيء محل العقد: مستصنعًا فيه، والعوض يسمى ثمنًا كما في البيع المطلق.