يتضح مما تقدم أن جمهور فقهاء المذاهب على أن الاستصناع عقد بكل معني الكلمة، وليس مجرد وعد حتى عند غير الحنفية من المذاهب الثلاثة التي لا تجوزه إلَّا على أنه سلم إذا توافرت فيه شروط السلم. ذلك أنه في نظر تلك المذاهب لو كان مجرد وعد لما صح أن يحكم فيه بعدم الصحة، لأن الوعد لا يوصف بالصحة أو عدمها، فهذا الوصف تختص به العقود التي لها انعقاد تترتب عليه أحكام إذا توافرت مقوماتها، ولها بطلان إذا فقد فيها بعض مقوماتها.
فمن يقرر من الفقهاء في أي مذهب كان عدم صحة الاستصناع لأن فيه بيع المعدوم المنهي عنه بغير طريقة السلم المستثناة شرعًا يلزم من حكمه هذا أنه يرى في الاستصناع عقدًا مخالفًا للنظام الشرعي في التعاقد. ولو أنه عنده مجرد وعد لما ساغ أن يقرر فيه عدم الصحة.
وقد أشرنا فيما سبق إلى أن الأدلة التي يستند إليها من يقول أنه وعد وليس بعقد هي أدلة ضعيفة ومردود عليها بقوة، فلا تنهض حجة.
بقي أنه، بعد تقرير كونه عقدًا، وهو ما استقر عليه رأي المتأخرين من فقهاء المذهب الحنفي، واعتمدته مجلة الأحكام العدلية، قد اختلفوا في طبيعته بين العقود: هل هو من قبيل الإجارة، فتطبق فيه شروطها وأحكامها، أو هو من قبيل البيوع؟
وأقوى شبهة يستند إليها من يرون أنه من إجارة الأشخاص أن بعض الأجراء العامين (الأجير المشترك) أصحاب المهن تقتضي طبيعة عمله أن يضع من عنده المادة التي يستلزمها عمله المستأجر عليه كالصباغ، فإنه يدفع إليه الثوب أو الغزل ليصبغه باللون المطلوب بصبغ يضعه من عنده، ولا يقدمه له صاحب الثوب، كما يفعل الصانع في الاستصناع، ولم يخرجه هذا عن أن يكون أجيرًا، وعقد عمله إجارة.
وقد أجاب القائلون بأن الاستصناع من قبيل البيوع لا من الإجارة بما يوضح الفرق جليًّا بين الصانع في الاستصناع، والصباغ ونحوه، من الأجراء العامين. وخلاصته أن المستصنع يأتي إلى الصانع صفر اليدين ليشتري شيئًا يصنعه له كله كاملًا بخامة وعناصر من عنده، ولو أنه وجد عنده ما يوافق مطلوبه لاشتراه جاهزًا. أما الصباغ فيأتيه الثوب من صاحبه ليعمل على إحداث لون فيه أو تغيير لونه، وهذا عمل محض وليس عينًا تباع، وإذا كان عمله هذا يستلزم وضع صبغ من عنده (لأنه هو الذي يحسن اختياره ويعرف مقداره) فهو تبع للعمل الذي هو المحل الأصلي للعقد.
وقد استقر الرأي عند الحنفية أن الاستصناع نوع من البيوع مستقل لا يدخل في أحد الأنواع الأخرى كالصرف والسلم، وليس أيضًا من البيع العادي (المطلق) . فكما أن الصرف والسلم نوعان من البيع وهما عقدان مستقلان، ولهما أحكام خاصة لا تجري في البيع المطلق العادي، فكذلك الاستصناع. وبهذا أخذت مجلة الأحكام العدلية، فعقدت للاستصناع فصلًا خاصًّا به في باب (أنواع البيع) من كتاب البيوع في المواد ٣٨٨ – ٣٩٢.