بعد ما تقدم لا حاجة بنا إلى الكلام عن حكم الاستصناع من حيث الجواز الشرعي وعدمه، أو بتعبير آخر: من حيث المشروعية، فقد وضح مما سبق أن الشك في مشروعيته وجوازه ليس له دليل شرعي خاص ولا سند قوي يدعمه سوى التطبيق لنص عام هو أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم. وهذا (الاستصناع) بيع شيء معدوم بغير طريق السلم واستيفاء شروطه.
لكن الذين قالوا بجوازه نوعًا من البيع خاصًّا بالمصنوعات متميزًا عن البيع العادي (المطلق) ودون تقيد بشروط السلم، وهم جمهور الحنفية لم يتجاهلوا الحديث النبوي المذكور، ولكنهم قالوا: كما جوز بيع السلم بالنص نفسه للحاجة وللمصلحة العامة فيه، (وهذا استحسان من الشارع نفسه، استثناءً من القاعدة التي أرساها وهي منع بيع المعدوم) استثنى كذلك الاستصناع بالإجماع استحسانًا للحاجة والمصلحة نفسهما. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اصطنع خاتمًا نقش عليه اسمه لختم رسائله به، وفسروه بأنه أوصى بصنعه فصنع له.
هذا، وقد أشرنا سابقًا إلى أن الحنفية يدعون الإجماع على جوازه للحاجة. ودعوى الإجماع مستقيضة في كتب المذهب الأساسية: المبسوط للسرخسي، والبدائع للكاساني، والهداية للمرغيناني، وسواها. وقد تبدو هذه الدعوى غريبة، فأي إجماع مع أن مذاهب عديدة منها الشافعي والحنبلي لا تجيزه إلَّا بشرائط السلم كاملة؟
ولكن الإجماع الذي يستند إليه الحنفية صحيح ولا يتنافي مع هذا الخلاف بين المذاهب في جواز الاستصناع، فإن الإجماع الذي يدعيه الحنفية هو الإجماع العملي. فهم يقولون إن العمل بالاستصناع فيما يحتاج إليه متعارف ومستمر من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم دون نكير.
فقد قال الكاساني في (بدائعه) عن الاستصناع:
" ويجوز استحسانًا، لإجماع الناس على ذلك، لأنهم يعملون ذلك في سائر الأعصار من غير نكير. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا تجتمع أمتي على ضلالة) .. والقياس يترك بالإجماع، ولهذا ترك القياس في دخول الحمام بالأجرة من غير بيان المدة ومقدار الماء الذي يستعمل ... ولأن الحاجة تدعو إليه لأن الإنسان قد يحتاج إلى خف أو نعل من جنس مخصوص ونوع مخصوص على قدر مخصوص وصفة مخصوصة، وقلما يتفق وجوده مصنوعًا، فيحتاج إلى أن يستصنع. فلو لم يجز لوقع الناس في الحرج ". [بدائع الصنائع للكاساني: ٦ أوائل كتاب الاستصناع] .