للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المحل المعقود عليه في الاستصناع:

قلنا قبلًا إننا سنرجئ الكلام على المحل المعقود عليه في الاستصناع والخلاف الفقهي فيه إلى هذا المحور الثاني من البحث لعلاقته بمدى أهمية الاستصناع في الاستثمارات الإسلامية.

اختلف فقهاء الحنفية الذين اهتموا بعقد الاستصناع وتفصيل أحكامه، وتفردوا بإفراد باب خاص به في كتاب البيوع، اختلفوا في تحديد المعقود عليه فيه (كما اختلفوا في تكييف العقد نفسه وتشخيص ماهيته وطبيعته مما سبق بيانه في موضعه) .

فقال بعضهم بأن المعقود عليه في الاستصناع (المحل في الاصطلاح القانوني) هو عمل الصانع البائع في العين المطلوبة، أي صنعه لها بنفسه. وهذا مع التسليم بأن العقد ليس إجارة بل هو بيع. فمقصودهم أنه بيع لعين موصوفة سيصنعها البائع نفسه.

وقال آخرون إن المعقود عليه في الاستصناع هو العين الموصوفة المطلوبة وليس عمل الصانع البائع.

وثمرة هذا الخلاف أنه لو أحضر البائع للمستصنع المشتري عينًا مطابقة للأوصاف المتفق عليها، لكنها من صنع صانع غيره، هل يجبر المشتري على قبولها. وإذا أعطاه إياها ولم يذكر أنها من صنع غيره فهل يكون قد برئت ذمته، أو يكون قد غشه؟ فإذا عرف بعد أخذه هل يكون له خيار في أن يردها.

- فعلى الرأي الأول (المبيع هو عمله بعد العقد) لا يجبر المشتري على قبولها، ولا تبرأ ذمته إن أعطاه صنع غيره فأخذه ظانًّا أنه صنعه.

- وعلى الرأي الثاني (المبيع هو العين لا العمل) يجبر المشتري على قبولها، وتبرأ ذمة الصانع إن لم يذكر له ذلك، لأنه قد وفى بالتزامه وهو تقديمه له عينًا مصنوعة موافقة للأوصاف المشروطة.

وكذلك بطريق الأولوية لو أحضر له عينًا مطابقة للأوصاف كان قد صنعها هو نفسه قبل التعاقد مع المستصنع.

مما يدعم الرأي الأول في نظرنا أن الاستصناع فيه شيء من عنصر الثقة الشخصية، فالمستصنع قد يكون إنما اختار هذا الصانع بالذات لثقته بمهارته، فربما لا يريد صناعة غيره.

ومما يدعم الرأي الثاني أن العبرة للمواصفات المطلوبة للمستصنع، فإذا كانت متوافرة مادة وصنعًا كما شرط لم يبق لاختلاف الصانع أي فرق بالنسبة للمشتري المستصنع، لأن السلعة ومواصفاتها هي المقصود.

والمرجح في المذهب هو الرأي الثاني أن المبيع هو العين الموصوفة فيوفي الصانع ذمته إذا جاءه بعين مستكملة الأوصاف المطلوبة من صنع غيره أو من صنعه هو نفسه قبل العقد. ومجلة الأحكام العدلية في هذه الناحية ساكتة، فتبقى العبرة لما هو مرجح في المذهب.

<<  <  ج: ص:  >  >>