بقيت نقطة ينبغي التعرض لها في ختام هذا البحوث قد ترد إلى الذهن، وهي أن الحنفية الذين انفردوا بإعطاء الاستصناع هذه المكانة بين العقود، واعتبروه نوعًا مستقلًّا من البيوع غير داخل في الإجارة ولا في السلم، يعتبرونه هم أنفسهم استثناءً من عدم جواز بيع المعدوم الذي هو الأصل لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه. وسند هذا الاستثناء الاستحساني هو الإجماع العملي المستمر للحاجة إليه حيث تعارفه الناس في أشيائهم الخاصة التي يوصون بعض الصناع على صنعها لهم بالصورة التي تلائمهم، كما سلف بيانه.
ومن ثَمَّ كان من المقرر عند الحنفية بلا خلاف أن الاستصناع إنما يجوز في الأشياء التي تعورف فيها، لأن العرف دليل الحاجة التي هي سبب الاستثناء، كما في استصناع الخف والثوب وبعض الآنية، ونحو ذلك من الأشياء الشخصية أو المنزلية الخاصة. وفيما سوى هذه المتعارفات لا يصح الاستصناع تمسكًا بالأصل، وهو عدم جواز بيع المعدوم. فكيف يفتح أمام الاستصناع هذا الباب الواسع في كل ما تدخله الصنعة؟ فبهذا التوسيع مخالفة للمذاهب الأربعة جميعًا: للثلاثة التي لم تجزه من الأصل إلا إذا توافرت فيه شروط السلم، وفي طليعتها تعجيل الثمن، وللحنفية أنفسهم الذين أجازوه مستقلًّا عن السلم ودون شرط تعجيل الثمن، لكنهم قيدوه بالمتعارف.