يلاحظ فيما سبق أن التعريف الذي نقلته من كتب الفقه كان من كتب الحنفية فقط، وذلك لأن عقد الاستصناع لا يعد عقدًا مستقلًّا، أو مما يعرف بالعقود المسماة، إلا عند الحنفية، وإن كان بعض الباحثين ذكر جوازه عند المذاهب الثلاثة كلهم أو بعضهم، وضم المجيزين إلى الحنفية، وهذا غير دقيق كما سيتضح من الدراسة التالية:
أولًا – الاستصناع عند المالكية:
بالرجوع إلى كتب المالكية نرى الحديث عن الاستصناع عند الحديث عن السلم وشروطه وأحكامه، فالمدونة الكبرى للإمام مالك يبدأ المجلد الرابع بكتاب السلم، وفي ثنايا السلم يوجد عنوان "في السلف في الصناعات"، وتحت هذا العنوان نجد ما يأتي:
" (قلت) : ما قول مالك في رجل استصنع طستًا أو تورًا أو قمقمًا أو قلنسوة أو خفين أو لبدًا، أو استنحت سرجًا أو قارورة أو قدحًا، أو شيئًا مما يعمل الناس في أسواقهم من آنيتهم أو أمتعتهم التي يستعملون في أسواقهم عند الصناع، فاستعمل من ذلك شيئًا موصوفًا، وضرب لذلك أجلًا بعيدًا، وجعل لرأس المال أجلًا بعيدًا، أيكون هذا سلفًا؟ أو تفسده لأنه ضرب لرأس المال أجلًا بعيدًا؟ أم لا يكون سلفًا ويكون بيعًا من البيوع في قول مالك ويجوز؟
(قال) : أرى في هذا أنه إذا ضرب للسلعة التي استعملها أجلًا بعيدًا، وجعل ذلك مضمونًا على الذي يعملها بصفة معلومة، وليس من شيء بعينه يريه يعمله منه، ولم يشترط أن يعمله رجل بعينه، وقدم رأس المال، أو دفع رأس المال بعد يوم أو يومين، ولم يضرب لرأس المال أجلًا، فهذا السلف جائز، وهو لازم للذي عليه، يأتي به إذا حَلَّ الأجل على صفةٍ ما وصفًا.