للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٢- الاستصناع بيع:

ذكر المالكية عدة صور للاستصناع - كما سبق – وجعلوا إحداها من باب البيع، وهي ما إذا طلب شخص من النحاس – مثلا - أن يصنع من نحاسه المعين تورًا – أي طشتًا – قال العلامة الدردير: (إنما هو بيع معين يشترط فيه الشروع ولو حكما، فهو من أفراد قوله: وإن اشترى المعمول منه، واستأجره جاز إن شرع، ويضمنه مشتريه بالعقد) (١) .

ولكن العلامة الدسوقي قال: (واعترضه شيخنا بأن بينهما فرقًا، لأنه هنا وقع العقد على المصنوع، ولم يدخل المعمول منه في ملك المشتري، والآتية دخل في ملكه المعمول منه بالعقد عليه ثم استأجره) (٢) .

وذكر المالكية بعض الصور التي هي فيها صنعة لكنها تدخل في البيع منها: جواز أن يشتري شخص من دائم العمل أو غالبه – ككون البائع من أهل حرفة وذلك الشيء لتيسره عنده – وكان الصانع معينًا دون المصنوع منه، فأشبه المعقود عليه المعين، وذلك مثل الخبازة والجزار بنقد وبغيره، وكذلك لا يشترط فيه تعجيل رأس المال، ولا تأجيل المثمن؛ لأنه بيع وهو لا يشترط فيه واحد من الأمرين، وإنما يشترط الشروع في الأخذ حقيقة، أو حكمًا بأن يؤخر الشروع في الأخذ خلال خمسة عشر يومًا، حيث أجازوا التأخير لنصف شهر (٣) يقول العلامة الدسوقي معلقًا على هذا النوع: (إنهم نزلوا دوام العمل منزلة تعين المبيع، وذكر العلامة الدردير مثالين لتطبيق ذلك فقال: (والشراء إما بجملة يأخذها مفرقة على أيام كقنطار بكذا كل يوم رطلين) والمثال الثاني هو أن يعقد معه على أن يشتري منه كل يوم عددًا معينا، قال الدردير: (وليس لأحدهما الفسخ في الصورة الأولى دون الثانية) حيث البيع فيها جائز غير لازم فلكل واحد منهما في الصورة الثانية حق الفسخ (٤)

فالمالكية أيضا أجازوا شراء مصنوع – من نحاس ونحوه – لم يكتمل صنعه جزافًا بثمن معلوم على أن يكمله له، بينما منعوا مثل ذلك في ثوب من نسيج إلَّا إذا كان عنده غزل يعمل منه غيره إذا جاء على غير الصفة قال الدردير: (إن ما وجد صانعًا شرع في عمل تور مثلًا فاشتراه منه جزافًا بثمن معلوم على أن يكمله له جاز، فإن اشتراه على الوزن لم يضمنه مشترية إلا بالقبض، وهذا بخلاف شراء ثوب ليكمل فيمنع ... لإمكان إعادة التور إن جاء على خلاف الصفة المشترطة أو المعتادة، بخلاف الثوب إلا أن يكون عنده غزل يعمل منه غيره إذا جاء على غير الصفة) (٥) إذن فالسبب وراء الجواز هو قدرة البائع على الوفاء بأداء ما التزم به حسب المواصفات التي طلبت منه.

وذهب بعض الحنفية إلى أن الاستصناع بيع ملزم للطرفين، وذهب بعضهم الأخير إلى أنه بيع ولكنه للمشتري فيه حق الخيار قال الكاساني: (وهو الصحيح) (٦) ثم اختلفوا في أن المبيع هل هو العين، أم عمله؟ (٧) .

٣- الاستصناع بيع وإجارة:

أدخل المالكية بعض صور الاستصناع في باب البيع والإجارة حيث ذكر ابن رشد صورتين واعتبرهما من هذا الباب، وهما:

١- أن يشترط المسلم عمل من استعمله، ويعين ما يعمل منه، حيث قال: (وهذا ليس بسلم، وإنما هو من باب البيع والإجارة في الشيء المبيع، فإن كان يعرف وجه خروج ذلك الشيء من العمل، أو تمكن بإعادته للعمل، أو عمل غيره من الشيء المعين منه العمل فيجوز على أن يشرع في العمل، وعلى أن يؤخر الشروع فيه بشرط ما بينه وبين ثلاثة أيام، أو نحو ذلك، فإن كان على أن يشرع في العمل جاز ذلك بشرط تعجيل النقد وتأخيره، وإن كان على أن يتأخر الشروع في العمل إلى الثلاثة أيام ونحوها لم يجز تعجيل النقد بشرط حتى يشرع في العمل) (٨) .

٢- أن لا يشترط المسلم عمل من استعمله، ويعين ما يعمل منه، قال ابن رشد: (فهو أيضا من باب البيع والإجارة في المبيع، إلا أنه يجوز على تعجيل العمل وتأخيره إلى نحو ثلاثة أيام بتعجيل النقد وتأخيره) (٩) .

إجارة ابتداء وبيع انتهاء:

وذهب بعض الحنفية إلى أن الاستصناع إجارة ابتداء، وبيع انتهاء، جاء في الذخيرة: (هو إجارة ابتداء، وبيع انتهاء لكن قبل التسليم، لا عند التسليم بدليل أنهم قالوا: إذا مات الصانع يبطل، ولا يستوفي المصنوع من تركته، ذكره محمد في كتاب البيوع) (١٠) .


(١) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: ٢/٢١٦.
(٢) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: ٢/٢١٦.
(٣) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: ٢/٢١٦، ويراجع: شرح الخرشي: ٥/٢٢٥
(٤) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: ٢/٢١٦، ويراجع: شرح الخرشي: ٥/٢٢٥
(٥) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: ٢/٢١٦
(٦) بدائع الصنائع: ٦/٢٦٧٧.
(٧) حاشية ابن عابدين: ٤/٢١٣
(٨) المقدمات الممهدات: ٢/٣٢.
(٩) المقدمات الممهدات: ٢/٣٢.
(١٠) فتح القدير، طبعة مصطفى الحلبي: ٧/١١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>