للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولذلك أخذت مجلة الأحكام العدلية بهذه الرواية عن أبي يوسف ونصت في مادتها ٣٩٢ على أنه: (إذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع، وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة كان المستصنع مخيَّرًا) .

ويبدون أن المجلة أخذت لزوم العقد من هذا الكتاب وغيره من كتب الحنفية التي صورت الخلاف بهذا الشكل الأخير، وذكرت رأي أبي يوسف الأخير الذي رَجَعَ إليه، ولا أعتقد أن ما قام به ابن عابدين من تفصيل وتحرير للخلاف يرفع الخلاف الذي ذكره المحيط البرهاني، وغيره، حيث وصل ابن عابدين إلى أنه لا خلاف في المذهب الحنفي في عدم لزوم عقد الاستصناع (جبر فيه إلا إذا كان مؤجلًا بشهر فأكثر فيصير سلمًا، وهو عقد لازم يجبر عليه ولا خيار فيه، وبه علم أن قول المصنف: فيجبر الصانع على عمله.. إنما هو فيما إذا صار سلمًا) ثم قال: (فظهر أن قول الدرر تبعًا لخزانة المفتي أن الصانع يجبر على عمله، والأمر لا يرجع عنه سهو ظاهر) (١) .

وهذا التحرير الذي قام به ابن عابدين اجتهاد منه في فهم نصوص علماء المذهب الحنفي، وحينئذ يمكن اعتباره طريقة من الطرق – حسب اصطلاح الفقه المذهبي – ولكن لا يمكن اعتباره حسمًا في المسألة، وقضاء على الخلاف الذي ذكره المحيط البرهاني والمبسوط، والدر المختار، وخزانة المعنى، والدرر، وغيرها من الكتب المعتمدة التي صرحت بأن أبا يوسف يقول في روايته الأخيرة بلزوم العقد، ولذلك أخذت بها المجلة، وهي عادة لا تعدل عن ظاهر الرواية إلا نادرًا ولحجج قوية، وعلماء المجلة من محققي المذهب الحنفي، وهم اطَّلعوا على ما قاله ابن عابدين، ومع ذلك لم يولوا له عنايتهم، بل أخذوا بلزوم العقد أخذًا برواية أبي يوسف.

وقد قال صاحب الهداية (وهو من كبار محققي الحنفية) : (وعن أبي يوسف: أنه لا خيار لهما ... أما الصانع فلما ذكرنا، وأما المستصنع فلأن في إثبات الخيار له أضرارًا بالصانع، لأنه ربما لا يشتريه غيره بمثله ... ) وقال صاحب العناية: ٠ والصحيح أنه بيع لا عدة، وهو مذهب عامة مشايخنا) ثم نقل أيضا هو الآخر رواية أبي يوسف في أنه لا خيار لهما، ولو كانت هذه الرواية غير ثابتة، أو أن المرغيناني فهمها على غير حقيقتها لعلق عليها) (٢) بالشيء المستصنع في الزمن المحدد له، ولذلك لو صنع الصانع قبل وقته، ثم باعه لآخر، لا يضر ما دام قادرًا على الإتيان بمثله في الأصل المحدد وذلك لأن العين المستصنعة ليست معينة بذاتها، وإنما ذمته مشغولة بصنع المطلوب في وقته.


(١) الهداية – مع شرح فتح القدير – طبعة مصطفى الحلبي: ٧/١١٦
(٢) شرح العناية بهامش فتح القدير: ٧/١١٦

<<  <  ج: ص:  >  >>