للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن جانب آخر إن القول بعدم لزوم الاستصناع يؤدي إلى أضرار كبيرة للطرفين، بل إنه في الواقع إذا لم يكن عقدًا لازمًا لا يمكن الإفادة منه، لأنه بإمكان أي واحد التخلص من آثار العقد، بل قد يؤدي إلى أضرار كبيرة بالطرفين، فقد يقدم الصانع على صنع الشيء الذي طلب منه وحينما يفرغ منه على ضوء المواصفات التي طلب منه المستصنع، يأتي الأخير ويقول له: لا أريده، وحينئذ ماذا يفعل به فقد لا يقبل آخر بالشيء المستصنع على ضوء مواصفاته الحالية وهذا توريط كبير منه إلى الصانع، فيتضرر به ضررًا كبيرًا، وقد يتضرر به المستصنع حيث ينتظر فترة شهر – أو أكثر على الأقل – ليكمل له الصانع الشيء المطلوب صنعه، فلو كان بالخيار، وباع الصانع المصنوع ماذا يفعل المستصنع؟ فهذه الأضرار لا أعتقد أن الشريعة تقبلها، وهي – كما يقول ابن القيم – مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وهي الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث ... فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل (١) .

ومع أن الوعود ليست ملزمة قضاء في نظر جمهور العلماء إلا أن جماعة منهم المالكية جعلوا الوعد ملزمًا إذا ترتب عليه أضرار بسببه، قال سحنون: (الذي يلزم من الدعوة قوله: أهدم دارك وأنا أسلفك ما تبنى به، أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، لأنك أدخلته بوعدك في ذلك، وقال: أصبغ: يقضي عليك به تزوج الموعود أم لا ... ) (٢) هذا في الوعد فما ظنك في عقد يتوفر فيه الأركان والشروط، ويترتب على الإخلال به أضرار كثيرة فردية – كما ذكرنا – وجماعية من خلال أنه لو لم يكن الاستصناع ملزمًا لما استفاد منه العاقدان على الرغم من أهمية هذا العقد في التنمية والتصنيع.

ومن جانب آخر أن عقد الاستصناع له شبه بمجموعة من العقود، وكلها عقود ملزمة، وهي السلم، والبيع، والإجارة، كما أن المعقود عليه في الاستصناع هو العمل والعين الموصوفة في الذمة وكل واحد منهما لو أصبح وحده محلًّا للعقد كان عقدًا لازمًا، فكذلك العقد الوارد عليهما معًا، فالعقد الذي محله العمل هو الإجارة، وهو ملزم، وكذلك العقد الوارد على العين الموصوفة – وهو السلم – ملزم، فيكون من الطبيعي المركب من اللزوم ملزمًا.


(١) أعلام الموقعين، ط. شفرون (٣/٣) .
(٢) الفروق للقرافي (٤/٢٤- ٢٥) ط. دار المعرفة بيروت.

<<  <  ج: ص:  >  >>