للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والعباد ملك الله على الجملة والتفصيل فحق عليهم التوجه إليه وبذل الجهد في عبادتهم لأنهم عباده وليس لهم الحق لديه ولا حجة عليه فإذا وهب لهم حقًّا ينالوه فذلك كالرخصة لهم لأنه توجه إلى غير المعبود واعتناء بغير ما اقتضته العبودية إذ العزيمة هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي على الإطلاق والعموم أكانت أوامر ندب أو وجوب أو كانت النواهي كراهية أو تحريمًا والإذن من الله في أن ينال حظًّا من الحظوظ هو بهذا المعنى رخصة ويدخل فيها على هذا الوجه كل ما كان تخفيفًا وتوسعة على المكلف والعزائم حق الله على العباد والرخص حظ العباد من لطف الله وهكذا تشترك المباحات مع الرخص على هذا الترتيب من حيث إنها توسعة على العباد ورفع حرج ومشقة وإطلاق الرخصة على ما استثنى من أصل كلي بمقتضى المنع مطلقًا من غير اعتبار لكونه لعذر شاق يدخل فيه القرض والقراض والمساقاة ورد الصاع من الطعام والمصراة وبيع العرايا بجزها تمرًا وضرب الدية على العاقلة وما أشبه ذلك وكل هذه العقود ونحوها مستند إلى أصل الحاجيات فهي قد اشتركت مع الرخصة بالمعنى الأول في هذا الأصل فيجري عليها حكمها في التسمية كما جرى عليها حكمها في الاستثناء عن أصل ممنوع (١) والحاصل أن العزيمة راجعة إلى أصل كلي ابتدائي والرخصة راجعة إلى جزئي مستثنى من ذلك الأصل الكلي وقد يكون لعذر شاق فلا ينتقل إلى الرخصة إلا عند العذر وقد يكون مطلقًا من غير اعتبار عذر فيدخل في كل ذلك ما أبيح ابتداء للحاجة إليه كبيع الاستصناع فهو مستثنى من أصل كلي يقتضي المنع وهو بيع ما ليس عندك الذي ورد النهي عنه واستثناء بيع الاستصناع هو استحسان والاستحسان في مذهب مالك هو الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي يقتضي المنع. ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس لأن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه وإنما رجع إلى ما علم من مقاصد الشريعة في الجملة في مآلات الأشياء المفروضة كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمرًا إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك وكثيرًا ما يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي، والحاجي مع التكميلي فيكون إجراء القياس مطلقًا، والضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده فيستثنى موضع الحرج والمشقة. وكذلك في الحاجي مع التكميلي أو الضروري مع التكميلي وله في الشريعة أمثلة كثيرة فالقرض مثلًا هو ربا في الأصل لأنه درهم بدرهم إلى أجل ولكنه أبيح لما فيه من الرفقة والتوسعة على المحتاجين بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق وحرج على المكلفين ومثله بيع العرايا بخرصها تمرًا فإنه بيع رطب يابس وهو ممنوع لما فيه من الغرر ولكنه أبيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة للمعري والمعرى ولو امتنع مطلقًا لكان وسيلة لمنع العرايا كما أن ربا النسيئة لو امتنع في القرض لامتنع أصل الرفق من هذا الوجه وجميع الرخص ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك لأنا لو بقينا على الأصل أي أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل العام من المصلحة فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى أقصاه،


(١) الموافقات، للشاطبي: ١/١٨١ إلى ١٨٤، طبعة بولاق

<<  <  ج: ص:  >  >>