للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إجماع المسلمين على التعامل بالاستصناع:

وعلى كل فإن الاستصناع عند الحنفية لم يثبت بالسنة وحدها، بل ثبت بالإجماع، وإقرار الرسول لهذا النوع من العقود الذي اصطلح عليه العرب وتعاملوا به من الجاهلية، وجاء الإسلام فأقره، وتنوقل إقرار الرسول باستمرار المسلمين على التعامل به في عهد الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يومنا هذا، بدون نكير، وقد قال رسول الله: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة" (١)

وقد ذكر مصطفى الزرقاء (٢) أن بعض فقهاء الحنفية أطلقوا على هذا النوع من الإجماع: (استحسان الإجماع) وهو عدول عن مقتضى القياس إلى حكم آخر انعقد عليه الإجماع.

وتعامُلُ المسلمين بهذا النوع من العقود يسمى عندهم: إجماعًا عمليًّا، اعتبره الحنفية حجة، استنادًا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه. فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيِّء)) (٣)

وكادت كتب الفقه الحنفي تجمع على جواز الاستصناع، مستندة في ذلك إلى السنة، والإجماع العملي، والاستحسان، إلا أن الإمام الكاساني زاد شيئًا آخر، مستندًا في ذلك إلى قاعدة، فقال: لأن فيه معنى عقدين جائزين، وهو السلم والإجارة، لأن السلم عقد على مبيع في الذمة، واستئجار الصناع يشترط فيه العمل، وما اشتمل على معنى عقدين جائزين كان جائزًا (٤)

وبهذا نعلم أن المذهب الحنفي حل مشكلة الصناعات التي تطورت تطورًا غريبًا، واحتيج إليها في هذا الزمان أكثر من كل الأزمنة الماضية، لأن السلم والإجارة لا يحلان كل حاجيات هذا العصر في الصناعة والاستصناع، فهذا العقد بما أحيط به من شروط ومواصفات، قد سهل على الناس أبواب التعامل، ووفر لهم كل مقومات الحياة بلا مشقة ولا ضرر ولا غرر، مع اجتناب كل ما حرمه الله، ونصت الشريعة على بطلانه.

ولما كان هذا العقد يتماشى مع ما جاءت به الشريعة من حفظ الحاجيات، ورفع المشقة على الناس، تماشيًا مع قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (٥)

كان الحكم بجوازه لا يخالف منهج الشريعة الإسلامية، ولا يناقض أهدافها.

ومن الحنفية - كالحاكم الشهيد، والصفار، ومحمد بن سلمة - من ذهبوا إلى أن الاستصناع ليس عقدًا من عقود المعاودة، وإنما هو مواعدة تقوم على بيان ما يطلبه الطالب فيعده صاحبه بإنفاذ ما يطلب، فإذا أنجز المطلوب منه وسلمه إلى الطالب فقبله، انعقد عند ذلك عقد البيع، بالتعاطي، لا قبله (٦)

أما جمهور الحنفية فإنهم يعتبرون الاستصناع عقد بيع بعد الإيجاب والقبول، اعتمادًا على ما ذكره الإمام محمد رحمه الله من أنه عقد بيع وليس بمواعدة (٧)


(١) سنن ابن ماجه: ٢/١٢٠٢.
(٢) المدخل الفقهي العام: ١/٨٥
(٣) مسند الإمام أحمد: ١/٣٧٩
(٤) بدائع الصنائع: ٥/٣
(٥) سورة الحج: الآية ٧٨
(٦) موسوعة جمال عبد الناصر: ٧/٩١
(٧) انظر في توجيه ذلك ما ورد في ص٥٦٥

<<  <  ج: ص:  >  >>