للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التعاقد على المعدوم وموقف الفقهاء منه وخاصةً الحنفية:

لما كان الاستصناع قائمًا على أساس التعامل بشيء غير موجود وقت العقد، والقاعدة المقررة في العقود اشتراط وجود المعقود عليه، لأن بيع المعدوم لا ينعقد، كان الاستصناع مثار جدل بين العلماء.

فمن اعتبر تعامل المسلمين بالاستصناع من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا، من غير نكير، دليلًا على الجواز، اعتبر الاستصناع عقدًا مستثنى من القاعدة، كالسلم، لتعامل الناس به، استحسانًا، وهذا هو مذهب الحنفية.

ومن قال: إن الاستصناع عقد بيع اختل فيه شرط من شروط عقد البيع، وهو وجود المعقود عليه، حكم بعدم جوازه، لعدة أمور:

أولًا: لأنه بيع غرر يؤدي إلى المنازعة، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، للحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر (١) واعتبروا الاستصناع، كبيع الثمرة التي لم تخلق، وبيع السمك في الماء: بيعًا فاسدًا.

ورد هذا من طرف من أجاز الاستصناع بأن الرسول لم ينه عن المعدوم، وإنما نهى عن الغرر، ومن المعدوم ما لا غرر في بيعه، لأنه ضبطت أوصافه في العقد، وفي الإمكان وجوده عادةً، وتعامل الناس به في السلم والاستصناع بلا نزاع، وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان،فقد ورد في الحديث الذي رواه الترمذي عن حكيم ابن حزام، أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يأتيني الرجل يسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه، ثم ابتاعه له من السوق، ثم أبيعه: فقال لا تبع ما ليس عندك (٢)

ورد هذا الاستدلال على المنع، من طرف المجيزين للاستصناع، فأنه: ليس بيع معدوم، لأن المادة الخام للمبيع تكون موجودة عادةً عند البائع، والمواصفات التي طلبها المشتري من الصانع هي سهلة التنفيذ عند الصناع عادةً، ولا ينجر بهذا النوع من التعامل غرر أو نزاع، وقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم تعامل الناس به، وأجمع المسلمون على جوازه.

وقال ابن قدامة من الحنابلة (٣) : لا يجوز بيع ما لا يملكه ليمضي فيشتريه ويسلمه، رواية واحدة، وهو قول الشافعي، ولا نعلم فيه مخالفًا.

والاستصناع ليس من باب بيع، المعدوم، ولا من باب بيع غير المملوك وإنما ينطبق عليه حكم تأجيل قبض المبيع، كما إذا تم الاتفاق على أن يسلم البائع المبيع بعد مدة من الزمن، مع أن الاستصناع عقد أجازه أحد مصادر التشريع وهو الاستحسان، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع العقود التي جرى تعامل الناس بها، ما دامت محققة لمصالح المسلمين، وغير جالبة للنزاع والضرر، مستجيبة للكليات العامة التي نادت الشريعة بالمحافظة عليها.


(١) رواه مسلم: مختصر مسلم، للحافظ المنذري: رقم ٩٣٩
(٢) نيل الأوطار، للشوكاني: ٥/٢٥٢، باب النهي عن بيع ما لا يملكه ليمضي فيشتريه [رواه الخمسة، وأخرج هذا الحديث ابن حبان، وقال الترمذي: حسن صحيح]
(٣) الشرح الكبير مع المغنى: ٤/١٩

<<  <  ج: ص:  >  >>