للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال في المدونة: وإن اشترط أن يعمله هو بنفسه، أو اشترط عمل رجل بعينه؟ قال: لا يكون هذا سلفًا لأن هذا الرجل سلف في دين مضمون على هذا الرجل، واشترط عليه عمل نفسه، وقدم نقده، فهو لا يدري أيسلم هذا الرجل إلى ذلك الأجل فيعمله له أم لا؟ فهذا من الغرر: إن سلم عمله له، وإن لم يسلم ومات قبل الأجل بطل سلف هذا، فيكون هذا الذي أسلف إليه قد انتفع بذهبه باطلًا.

ثم قال: وإن اشترط أن يعمل له من حديد قد أراه إياه أو ظواهر أو خشب أو نحاس قد أراه إياه؟ قال: لا يجوز ذلك لأنه لا يدري أيسلم ذلك الحديد أو الظواهر أو الخشب إلى ذلك الأجل أم لا. ولا يكون السلف في شيء بعينه، فذلك لا يجوز في قول مالك (١)

فالمالكية يعتبرون هذا العقد بيعًا معينًا، والحنفية يعتبرون بيعًا موصوفًا في الذمة.

وبهذا ندرك أن الأصل في هذا الموضوع هو اتفاقهم على صحة هذا النوع من التعامل الذي كان موجودًا من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الخلاف بينهم في تخريج هذا العقد: هل هو بيع، فتجري عليه أحكام البيع؟ أو هو سلم فتجرى عليه أحكام السلم؟ أو هو إجارة فتجرى عليه أحكام الإجارة؟

فالمالكية لم يخرجوا بهذا النوع من التعامل عن العقود المتعارفة والتي ضبطت شروطها وأركانها.

أما الحنفية فإنهم اعتبروا الاستصناع عقدًا جديدًا غير البيع والسلم والإجارة. وحاولوا أن يضبطوه بشروط من شأنها أن تحقق المصلحة المرجوة منه بدون مساس بأصول الشريعة وقواعدها، متجنبين كل ما من شأنه أن يكون سببًا في غرر أو ضرر أو مفسدة.

أما ابن رشد فقد ذكر في المقدمات أن ابن القاسم يقسم السلم في الصناعات إلى أربعة أقسام:

الأول: أن لا يشترط المسلم المستعمل عمل من استعمله (أي الصانع) ولا يعين ما يعمل منه، فهو سلم على حكم السلم، لا يجوز إلا بوصف العمل، وضرب الأجل، وتقديم رأس المال.

الثاني: أن يشترط عمله. ويعين ما يعمل منه، فليس هذا العقد بسلم، وإنما هو من باب البيع والإجارة بالعمل في الشيء المبيع.

الثالث: أن لا يشترط عمله بعينه. ويعين ما يعمل منه، فهو أيضًا من باب البيع والإجارة في المبيع.

الرابع: أن يشترط عمل الصانع بعينه، ولا يعين ما يعمل منه، فلا يجوز على حال، لأنه عقد يجتذبه أصلان متناقضان: لزوم العقد، لكون ما يعمل منه مضمونًا، وامتناعه، لاشتراطه عمل المستعمل بعينه (٢)

ويبدو أن ابن القاسم كان أكثر فقهاء المالكية وضوحًا في بيان أن المالكية لا تمنع تعامل الناس بالاستصناع، وإنما تسميه، حسب نوع التعامل: سلمًا، أو بيعًا، أو إجارة. وإذا كان هذا التعامل لا تتوفر فيه شروط السلم أو البيع أو الإجارة فإنها عند ذلك تمنع هذا النوع من التعامل.


(١) الشرح الصغير، للدردير: ٣/٢٣٣
(٢) المقدمات، لابن رشد: ٢/٣٢

<<  <  ج: ص:  >  >>