للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا كانت هذه الحاجة قد دفعت الفقهاء في الماضي إلى القول بتقديم القياس الخفي على القياس الجلي، وسموا هذا: استحسانا، وما ذهبوا إلى الاستحسان تشهيًا، بل راعوا فيه تيسير وسائل التعامل بين الناس، وقدروا حاجة التجار إلى هذا النوع من التعامل، واستخدموا قواعد أقرها الفقهاء أنفسهم: المشقة تجلب التيسير - إذا ضاق الأمر اتسع - الحاجة تتنزل منزلة الضرورة، عامة أو خاصة - العادة محكمة (١) فإن حاجة الناس إلى ذلك في عصرنا هذا أشد.

وفي نفس هذا الاتجاه يمكن أن نقر أشياء جديدة لم يجر التعامل بها في الماضي، ولكنها أصبحت في هذا الزمان مما يجري فيها التعامل بين الناس، بل عمت بلدانًا كثيرة نتيجة انتشار المصانع في كل مكان، وتزايد حاجات الناس، وسهولة الاتصال بين الشعوب. وسرعة التنقل.. على أن الأشياء التي مثل بها الفقهاء لم تذكر على سبيل الحصر، وإنما ذكرت لشرح ما يجوز فيه الاستصناع مما تعامل فيه الناس، ولذلك كانت الأمثلة تتغير في كتب الفقه من زمان إلى زمان.

ولهذا مثلت مجلة الأحكام العدلية بأشياء جيدة لم تذكر من قبل في كتب الفقه، واعتبرتها من الاستصناع الذي جرى به عمل الناس، فمثلت لذلك بالزورق وبالسفينة والبندقية (٢) . كما مثلت موسوعة جمال عبد الناصر (٣) .. بقطع الموبيليا والثياب والأحذية.. مع أن القدماء نصوا على أن الثياب لا يجوز فيه الاستصناع، وعللوا ذلك بعدم التعامل.

وهنا يجب أن يقول المجمع الفقهي كلمته في الأشياء المستحدثة التي لم يجر فيها التعامل من قبل، وعم التعامل فيها بين الناس حديثًا، كالآلات والمعدات والسفن والثياب وغيرها:

هل نحكم فيها بفساد العقود، اعتبارًا لأنها لم تكن مما تعامل الناس فيه، ونلتزم فيها ما قاله الفقهاء في الماضي إلى أبد الدهر، بدون التفات إلى تغير الزمان والأعراف والعادات، وأنه لا عبرة بما جرى عليه تعامل المسلمين في القرون الأخيرة.

ولماذا لا نقول إن الشرط في الاستصناع هو تعامل المسلمين في أي زمان من الأزمنة، وقول الرسول: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" لا يتقيد بأي عصر من العصور، وأنه مهما تحقق تعامل الناس مع توفر بقية الشروط كان استصناعًا وما ذكر من الأشياء التي يجوز فيها الاستصناع إنما هو مجرد أمثلة. وهذا الاتجاه هو الذي يحقق ازدهار الصناعات التي انتشرت وعمت كل حاجيات الإنسان، وأصبح الحكم فيها بعدم الجواز لأن الناس لم يتعاملوا فيها من قبل حرجًا لا موجب له، ومنافيًا لما قامت عليه الشريعة من سد حاجيات الإنسان، وتيسير أموره، ما دامت مجموع شروط الاستصناع متوفرة فيها، ولا تتضمن غررًا ولا ضررًا.


(١) الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ١/١٢٦، والأشباه والنظائر، للسيوطي: ص٩٧، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر: ١/٣٦٠
(٢) شرح مجلة الأحكام العدلية، لعلي حيدر - المادة ٣٨٨
(٣) الموسوعة: ٧/٩٣

<<  <  ج: ص:  >  >>