حاجة الإنسان تتعلق بما في يد غيره فيسدها بالشراء إن كانت أعيانًا موجودة، ولكن ما هو موجود قد لا يسد حاجة الإنسان، فيطلب إحضار ما يحتاجه بصفات معينة وشروط خاصة، وقد يدفع الثمن حالًا ويأخذ المثمن مالًا وذلك السلم كما هو معلوم بشروطه المعتبرة عند الفقهاء ومن أهمها دفع رأس مال السلم في مجلس العقد عن الجمهور أو تأخيره إلى ثلاثة أيام كما هو مشهور عن المالكية (١) وسيأتي تفصيل ذلك في شروط السلم.
وإن وجد الحاجة ولم يجد المال أو لم يدفعه فهو البيع بالدين.
ولكن ما هو موجود في السوق قد لا يسد حاجة الإنسان ولا يشبع رغباته، وقد يخشى على ماله من الاستغلال والضياع فهل يوجد عند الفقهاء حل يتلاءم مع مقاصد الشارع ويسد رغبات المكلفين بدون حرج يلحقهم أو ضرر يتوقعونه؟
هذا ما سيكون بحثه فيما يأتي:
فلا شك أن عقد الاستصناع يعتبر أحد العقود التي ذكرها الفقهاء لسد حاجات الناس ولكنهم اختلفوا في تكييفه وشروطه اختلافًا بينًا فإذا دفع الثمن في مجلس العقد فلا إشكال، إذا كان المعقود عيه سلمًا تحقق شرطه أو استصناعًا بشرط السلم ولا خلاف في الحكم ما دامت المعاني متفقة وإن دفع جزءًا من الثمن وآخر الباقي فما دفع ثمنه صحيح والخلاف فيما لم يدفع ثمنه بين الجواز والفساد.
ولكن ما هو حكم ما لم يدفع عوضه في المجلس مما يستصنع هل هو صحيح أو غير صحيح؟
جواب هذا السؤال سيكون بعرض آراء الفقهاء وأدلة كل على حدة ومناقشتها وبيان ما يرد على الأدلة من اعتراضات وشبه وبيان الرأي الذي يترجح حسب قوة أدلته واتفاقه مع مقاصد الشارع، وقد قسمت هذا المبحث إلى عدة مطالب.
(١) مذهب المالكية لا يسعفه الدليل إذ هو من باب بيع الدين بالدين، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وتلقت ذلك الأمة بالقبول كما في حديث: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" وما قالوه من أن المدة القصيرة بعد العقد كمجلس العقد يرده أن ما بعد العقد يخالف وقت العقد بدليل اعتبار ذلك في الربا