للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الترجيح:

بعد عرض الآراء في الاستصناع يتضح أن الاعتراض عليه ينحصر في حالتين:

أحدهما أنه بيع معدوم، فقد أظهر عرض الأدلة والمناقشة والاعتراضات والرد عليها رجحان من أجازة مع أنه معدوم حال العقد وأن القول بعدم جواز بيع المعدوم ضعيف بل واه. وقد سبق استعراض كل ما ورد في هذا المعنى.

أما الجانب الثاني الذي ظل فيه النقاش والأخذ والرد والاستدلال فلا يزال النزاع قويًّا والأدلة متقاربة، إذ أن تكييف العقد واعتباره من بيوع الدين والاستدلال ومناقشة الادلة أظهر أن أدلة كل من الطرفين قوية وكثير الاعتراضات والمناقشة مردودة بمثلها ولكن الباحث لابد له من النظر في الأدلة مجتمعة على ضوء مقاصد الشارع في المعاملات وما اشتملت عليه الشريعة الإسلامية من رفع للحرج والمشقة فالنصوص الشرعية متضافرة في رفع العنت والحرج قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (١)

وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (٢)

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى: ((يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا)) (٣)

وهو صلى الله عليه وسلم: "ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه" (٤)

ولاشك أن الاستصناع من الأمور الحاجية والملحة لفئات كثيرة من الناس وعناية الشارع بالحاجيات تقارب عنايته بالضروريات وقد ذكر العلماء أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة (٥)

فيستثنى موضع الحرج والمشقة ويقال بجواز الاستصناع بدون شرط السلم حيث إن إجراء القياس مطلقًا.. يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده ولو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى ذلك إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى أقصاه (٦) وحيث إن النهي عن بيع الدين بالدين عام فيخصص بالحاجة ويقال بجوازه أخذًا بمبدأ التيسير الذي اشتملت عليه الشريعة في مواردها، وما ورد من أدلة خاصة كاستصناعه صلى الله عليه وسلم واستصناع صحابته من بعده وما بعدهم من القرون قرنًا بعد قرن وجيلًا بعد جيل إلى يومنا هذا.


(١) سورة الحج: الآية ٧٨
(٢) سورة البقرة: الآية ١٨٥
(٣) البخاري، الجامع الصحيح مع الفتح: ١٠/٥٢٤
(٤) البخاري، الجامع الصحيح: ١/٩٣
(٥) المراد بالخصوص طائفة معينة من الناس كأهل بلد أو حرفة معينة من عمال أو زراع أو صناع أو أطباء وأمثالهم من أهل المهن والحرف والصناعات
(٦) انظر: الشاطبي، الموافقات: ٤/١١٦ و ١١٧

<<  <  ج: ص:  >  >>