للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن هذا الوجه النهي عن بيع نتاج النتاج كأن يقول البائع: بعت ولد ولد هذه الناقة، وكذلك بيع الحمل.

وقال الشوكاني: ومن جملة بيع الغرر: بيع السمك في الماء.

فهل صورة عقد الاستصناع لا غرر فيه، لأنه معلوم وموصوف، ومقدور التسليم بحكم العادة، وما تعارف عليه الناس، وتقديرهم لخبرة الصناع، فأسباب الغرر منتفية، والشيء ولو أنه غير موجود وقت العقد إلا أنه مقدور عليه بما وصف به، وبما عرف من إمكانية إنجاز الصانع له؟

ويعالج ابن القيم رحمه الله هذه المسألة في بيانه لحكم بيع المعدوم عند العقد فيرى أن بيع المعدوم جائز إذا لم يكن فيه غرر، وعزا هذا الرأي إلى عدم ورود دليل من الكتاب، ولا من السنة، ولا من أحد الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بعموم لفظ، ولا العموم معنى، وإنما ورد النهي عن بيع الأشياء التي هي معدومة، كما ورد النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة، وإلى أن الشارع أورد نصًّا بجواز بعض المعدوم كبيع الثمر بعد بدو صلاحه مستحق الإبقاء إلى كمال الصلاح.

والخطر هو للغرر لا للعدم فيقول:

(أما المقدمة الثانية وهي أن بيع المعدوم لا يجوز، فالكلام عليها من وجهين:

أحدهما: منع صحة هذه المقدمة إذ ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في كلام أحد الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز لا بلفظ عام، ولا بمعنى عام، وإنما في السنة النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة، كما فيها النهي عن بعض الأشياء الموجودة، فليست العلة في المنع، لا العدم ولا الوجود، بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه سواء كان موجودًا أو معدومًا، كبيع العبد الآبق، والبعير الشارد، وإن كان موجودًا، إذ موجب البيع تسلم المبيع، فإذا كان البائع عاجزًا عن تسليمه فهو غرر ومخاطرة وقمار، فإنه لا يباع إلا بوكس، فإن أمكن المشتري تسلمه كان قد قمر البائع، وإن لم يمكنه ذلك قمره البائع، وهكذا المعدوم الذي هو غرر، نهي عنه للغرر لا للعدم، كما إذا باعه ما تحمل هذه الأَمَة، أو هذه الشجرة، فالمبيع لا يعرف وجوده ولا قدره، ولا صفته.

وهذا من المَيْسِر الذي حرمه الله ورسوله، ونظير هذا في الإجارة أن يكون دابة لا يقدر على تسليمها سواء كانت موجودة أو معدومة، وكذلك في النكاح إذا زوجه أَمَةً لا يملكها، أو ابنة لم تولد له، وكذلك سائر عقود المعاوضات، بخلاف الوصية فإنها تبرع محض، فلا غرر في تعلقها بالموجود والمعدوم، وما يقدر على تسليمه إليه وما لا يقدر.

ثانيهما: أن نقول: بأن الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع، فإنه أجاز بيع الثمر بعد بدو صلاحه، والحب بعد اشتداده، ومعلوم أن العقد إنما ورد على الموجود، والمعدوم الذي لم يخلق بعد.

والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعه قبل بدو صلاحه، وأباحه بعد بدو الصلاح) (١)


(١) في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع) ، رواه جماعة إلا الترمذي. انظر منتقى الأخبار مع نيل الأوطار: ٥/١٩٥؛ وانظر أعلام الموقعين: ١/٤٦٢ و ٤٦٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>