للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كما فرق الكاساني بين الاستصناع والاستئجار للصنع بقوله: (إن أسلم إلى حداد حديدًا ليعمل له إناءً معلومًا بأجر معلوم، أو جلدًا إلى خفاف ليعمل له خفًّا معلومًا بأجر معلوم، فذلك جائز لا خيار فيه، لأن هذا ليس باستصناع، بل هو استئجار فكان جائزًا، فإن عمل كما أمر استحق الأجر. وإن فسد فله أن يضمنه حديدًا مثله، لأنه لما أفسده فكأنه أخذ حديدًا، واتخذ فيه آنية من غير إذنه، والإناء للصانع، لأن المضمونات تملك بالضمان. فهذه تختلف الإجارة فيها على الصناعة عن الاستصناع اختلافًا بائنًا، ولو شابه الإجارة من جهة كون العقد يبطل بموت أحد العاقدين مثلًا (١)

فالصانع يعد من قبيل الأجير المشترك، وأنه استؤجر للاستفادة والانتفاع بصنعته فهو يقدم عملًا لا عينًا، وأما الاستصناع فإن الصانع يقدم فيه مادة وعملًا بها، ولهذا لو تعاقد على أن تكون العين من صاحب العمل، والعمل من الصانع كان العقد عقد إجارة لا استصناع.

وإن دفع إليه بعض المعمول وأمره أن يزيده من عنده ما بقي لإتمامه فهذا جائز ويكون قرضًا.

ولو أمره أن يزيد إليه شيئًا مجهولًا، فإن العقد لا يصح، إلا إذا كان ما أمره بزيادته - وإن كان مجهولًا - من الأمور المعلومة عند الصناع فإنه يصح، وذلك كأن يدفع للصانع ثوبًا ليصبغه بعصفر، فهذا يجوز مع أن قدر العصفر غير معلوم، وكل ذلك يختلف باختلاف العرف في كل بلد. (٢)

ومع وجوه التفريق بين "الإجارة على الصنع" و "الاستصناع" فإن بعض فقهاء الحنفية يرون أن "الاستصناع" إجارة ابتداء، بيع انتهاء.

ففي فتح القدير نقلًا عن الذخيرة: الاستصناع إجارة ابتداء، بيع انتهاء، لكن قبل التسليم، لا عند التسليم (٣)

بدليل أنهم قالوا: إذا مات الصانع يبطل، ولا يستوفى المصنوع من تركته، ذكره محمد في كتاب البيوت.

لكن القول ببطلان عقد الاستصناع بموت أحد العاقدين أرجعه الحنفية إلى كون الاستصناع له شبه بالإجارة، فهل الإجارة تبطل بموت أحد العاقدين؟

يجيب عن هذا عبد الوهاب البغدادي في كتابه "الإشراف على مسائل الخلاف" (٤) فيقول: لا تنفسخ الإجارة بموت أحد العاقدين إذا لم يتعذر استيفاء المنافع خلافًا لأبي حنيفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك مالًا أو حقًّا فلورثته".

وهذه الإجارة متروكة للميت فيجب أن تكون لورثته، وهذا ينفي الفسخ، ولأنه عقد معاوضة، فلم ينفسخ بموت أحد العاقدين.

وتأسيسًا على ما سبق فإن "الاستصناع" عقد مستقل مسمى، وهو " عقد الاستصناع " له شبه بالإجارة من جهة كون الصنعة "العمل المطلوب" فيه تكون من الصانع.


(١) انظر بدائع الصنائع: ٦/٢٦٧٨، والاستصناع: ص١٣٢
(٢) انظر الاستصناع: ص١٣١، نقلًا عن بحث الإجارة المقدم للموسوعة الفقهية في الكويت، للأستاذ مصطفى كمال وصفي فقرة ٣٧٢
(٣) انظر فتح القدير: ٥/٣٥٦ و ٣٥٧
(٤) الإشراف على مسائل الخلاف: ٢/٦٦، وانظر هامش الاستصناع: ص١٣٣

<<  <  ج: ص:  >  >>