للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذه التساؤلات: كانت العناصر التي تضمنها البحث الذي قدمته في عقد الاستصناع وعلاقة هذا العقد بالعقود الجائزة، فإذا تقدم المستصنع إلى الصانع فردًا كان أم مؤسسة بصنع شيء تحدد معالمه وتذكر صفاته وكل ما يريد المستصنع في المستصنع فيه، كما يتفق على الثمن، فهذا الاتفاق هو شكل عقد الاستصناع، هذا العقد، فقهاء الحنفية عدوه عقدًا مستقلًّا، أما فقهاء المالكية والشافعية فقد عدوا الاستصناع في أبواب السلم، وفقهاء الحنابلة جعلوه في باب بيع ما ليس عند الإنسان على غير وجه السلم، ولذلك فإن حكم الاستصناع لدى الحنفية الذين اعتدوا به عقدًا مستقلًّا الجواز، وأدلة هذا الحكم الاستحسان، ووجهه الإجماع العملي وحاجة الناس إليه وليس القياس، ويرى بعض الفقهاء – كما استمعنا من أساتذتنا الكرام – أن السنة تعد من أدلة حكم الجواز قبل الاستحسان، وإن كان الحديث حديث المنبر وحديث الخاتم – أيضًا فيه ما يحتاج إلى تفصيل ضمنته البحث، وأما بقية الفقهاء الذين أدخلوا الاستصناع في غيره فهو جائز، لأن هذه العقود جائزة، ناقش البحث ما قيل عن الاستصناع بأنه مواعدة، وانتهى إلى ترجيح أدلة القائلين بأنه عقد، ومع قوة الأدلة المرجحة فإن القول بالمواعدة ليس محققًا لمهمة الاستصناع في حياة الناس من ناحية، وليس موافقًا لطبيعة الاستصناع من ناحية أخرى، فكيف تقوم هذه الصناعات الخطيرة على مجرد وعد؟ كما ناقش البحث أيضًا مسألة اعتبار الاستصناع بيع ما ليس عند المرء، بسبب أن المال المستصنع ليس موجودا بصفته المطلوبة وقت التعاقد وورود النهي عن هذا البيع لما فيه من المخاطرة والغرر، وليس النهي بسبب عدم وجود الشيء، فإذا انتفي الغرر كان الجواز، فالمعقود عليه في الاستصناع لا غرر فيه، لأنه معلوم وموصوف ومقدور التسليم بحكم العادة وما تعارف عليه الناس وتقديرهم لخبرة الصناع، كما تناول البحث علاقة الاستصناع بعقد السلم. فقد أدخله المالكية والشافعية في عقد السلم أو في البيع بالصفة أو تشبيهه بالسلم. كما قدمت أوجه التشابه والافتراق بين عقد الاستصناع وعقد السلم، عرض البحث كذلك إلى علاقة عقد الاستصناع بعقد الإجارة، فالاستصناع له شبه بالإجارة في طلب الصنع وهو العمل، ولكن يفترق الاستئجار على الصنع والاستصناع، ومع هذا التفريق بينهما وجدنا بعض فقهاء الحنفية يرون أن الاستصناع إجارة ابتداء بيع انتهاء، وبعد بيان علاقة عقد الاستصناع بالعقود الجائزة فإن هذه العلافة تجعل لحكم الجواز في عقد الاستصناع قوة، ولذلك فإن اختلاف العلماء – وهذا ما أحب أن أؤكده تأكيدًا لما استمعنا إليه من كلام أساتذتنا الكرام في قيمة عقد الاستصناع – في جوازه ومنعه ليس إهمالًا للاستصناع، وليس انصرافًا عنه وإنما في اعتباره عقدًا مستقلًّا – كما اعتبره جمهور الحنفية – أو داخلًا في مباحث عقود أخرى جائزة عند غير الحنفية.

والذي أختم به حديثي في تقدير ما يصدر عن مجمع الفقه في بيان حكم الاستصناع أن يقترن بهذا التوجيه للأمة، فالأمة، كلها الآن مطالبة في حياتها المعاصرة أن تطرق مجالات الاستصناع التي تقتضيها المعاصرة، ليتحقق لها الوجود القوي الذي يؤثر ويتأثر بصورة إيجابية، لا تكون في موقع المستهلك فحسب وإنما تحقق في داخلها التكامل الذي يسر الله سبحانه أسبابه، فعنصر المال يفتح مجالات الاستصناع، والمواد والخام والخبرة مع تنوعها، والضوابط التي يقدمها الفقهاء في مثل هذا المجمع في هذه المجالات، تحقق للأمة جميعًا بين الأصالة والمعاصرة، الاستصناع في المجال الطبي، وفي المواصلات، وفي آلات القوة الملتزمة بالحق والعدل وإفشاء السلام، والخير للعالمين، في الأجهزة والأدوات التي تيسر للأمة سبل حياتها، التصنيع الزراعي، وما يحتاجه الإنسان في مأكله ومشربه، بل وفي وسائل ترفيهه التي تتلاءم مع شخصية الأمة، كل ذلك في حاجة إلى النهوض به ونحن نتدارس حكم عقد الاستصناع. وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وشكرًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>