هو في الواقع أن عقد الاستصناع عقد له أهميته خاصة في هذا العصر الذي تطور فيه كل شيء، وأصبحت الصناعة هي عموده الفقري، ويعجبني كلمة لأبي الحسن الماوردي قالها في عصره - ولا أعتقد أن الصناعة في ذلك العصر وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم أو كانت لها أهمية كما لها الآن، أنقل كلمة من سطر ونصف فقط للبيان والتوضيح - قسم المكاسب إلى أربعة أوجه: نماء زراعة، ونتاج حيوان، وربح تجارة، وكسب صناعة والمهم هو تركيزه على قوله كسب الصناعة، قال:(القول في الصناعة وأنها وثيقة الصلة بالأسباب الثلاثة وأنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: صناعة فكر، وصناعة عمل، وصناعة مشتركة بين فكر وعمل، وتكلم عن العمل الصناعي بأنه أعلاها رتبة لأنه يحتاج إلى معاطاة في تعلمه ومعاناة في تصوره) .
هذه الكلمة في الواقع تبين لنا أهمية عقد الاستصناع في هذا العصر، لأن الصناعات تطورت، وتنوعت، وأصبحت مهمة، حتى إن مجلة الأحكام العدلية وهي قد مضى عليها تقريبا أكثر من مائة سنة، شعرت بأهمية هذا العقد وبينت فيه - الجماعة الذين وضعوا المجلة - بينوا أهمية هذا العقد ونصوا في المذكرة التي رفعوها إلى الجهات المعنية على أهمية عقد الاستصناع، ولهذا يعتبر الفقه الحنفي في الواقع كما يعبر عنه علماء القانون في العصر الحديث عندما وضعوا أبوابا منفصلة عن عقد الإجارة تعالج عقد الاستصناع تحت عبارة عقد المقاولات، فأبرزوا أهمية عقد المقاولة ومدى استجابتها، لظروف العصر، واهتموا أيضا بتنويع التقنيات الوضعية في مسألة معالجة عقد الاستصناع في ناحيتين: في العقود المدينة تحت اسم عقد المقاولة، واهتموا أيضا في القوانين البحرية بالنص على المقاولة في بناء السفن، وتظهر أهمية هذا إذا قلنا بلزوم العقد، فالحنفية: في الواقع أنا نقلت لهم من كتاب غنية ذوي الأحكام في حاشية درر الأحكام لملاخسرو، قال الشرنبلالي في حاشيته على درر الحكام والمسمى غنية ذوي الأحكام في حاشية درر الحكام تعليقا على قوله: وله - أي للآمر - الخيار أي دون الصانع وهو الأصح،وعن أبي حنيفة: أن الصانع له الخيار، وعن أبي يوسف: لا خيار لواحد منهما، وذكر شراح المجلة عندما نقلوا هذا النص في مادة المجلة على أن هناك اختلافا في روايات المذهب الحنفي، فمنهم من ينقل عن أبي يوسف: أن اللزوم لا يكون إلا في وقت لاحق، ومنهم من يقول: إن العقد يكون لازما من بداية العقد، وهذا الذي أخذت به المجلة في لزوم عقد الاستصناع.
أما بقية المذاهب الأخرى فهي في الواقع لم تهمل عقد الاستصناع، بالعكس إنما عالجته بأسلوب آخر، فالإمام الشافعي نص على أن الطالب يستطيع أن يشتري المادة ويطلب صنعها، عند الحنابلة أيضا في اشتمال عقد البيع على شرط كأن يشتري قماشا ويطلب خياطته، كذلك في المذهب المالكي نصوا في عدة أماكن على ما يحقق عقد الاستصناع، ومنهم اجتماع عقدين كعقد البيع وعقد الجعالة، وضربوا مثلا لذلك بالطبيب - مثلا - لو تقاول مع الطبيب على أن يعالج هذا المريض على أن يكون الدواء منه، فالمذاهب الأخرى لم تهمل جانب عقد الاستصناع بل عالجوه بوسيلة أخرى غير الوسيلة التي عالج بها المذهب الحنفي والذي كان موفقا جدًّا في جعله عقدا مستقلًّا له أحكامه وشرائطه، وشكرا.