للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولما صار الأمر إلى ابن أخيه الباشا علي بن محمد امتهن الخاصة وأدرك العامة العنت وهالتهم تصرفات الأمير الجديد ومظالمه في تتبعه لشيعة عمه ومواليه، ولكنه مع ذلك حصن البلاد، وجهز الثغور، وأجرى السقايات العظيمة النفع، وهدم الحانات، وشيد المباني الفاخرة بباردو. وقدر لأهل العلم والأدب منازلهم وراعى مقامتهم، وبنى للطلاب مدارس عديدة كالباشية والسليمانية ومدرسة بئر الحجار، ومدرسة حوانيت عاشور، وشيد تربة لهم بالقشاشين، ومباني كثيرة أحاط بها الجامع الأعظم، ولم يفسد عليه خطته الإصلاحية ويقوض آماله غير تنازع أبنائه على الحكم وتقاتلهم، وثورة ابنه الأكبر يونس عليه الذي برز لمحاربته ورمى بكور مدافعه الحاضرة وأرباضها والدور والمعالم ناشرًا الرعب والخراب والموت.

ولما أحس أهل الحل والعقد بتعاقب الأحداث وتفاقم الأخطار كتبوا إلى ابني أميرهم حسين بن علي مستنجدين بهم لتخليص بلدهم مما لحقه وحل به.

وعاد الأمر بعد ذلك إلى نصابه، وقرت العيون برجوع محمد الرشيد وأخيه علي ابني حسين إلى السلطة والحكم، وسرت العافية والطمأنينة في كل الربوع، وابتهجت الحياة للرعية من جديد، وولت المخاوف والأنكاد تعوضها مواسم بواسم وأيام مشرقة زاهية، وهكذا انتعشت المملكة بحسن سياسة محمد الرشيد، وتجاوب معه أهل البلاد، والتفوا حوله وحول أخيه من بعده ينشدون مفاخرهم، ويترنمون بكريم خصالهم وعظيم مناقبهم، لما وجدوه لديهم من تودد إليهم وعناية بهم وحماية لهم. وقد سجل الشعراء والكتاب كل ذلك في قصائدهم البديعة وتواريخهم الموثقة. فذكروا من مآثر الباشا علي بن الحسين الأثيرة مدرسته الشهيرة، وتربته وتكيتيه المشهورتين للفقراء والمساكين، وبناءه المحكمة الشرعية، وإجراءه المياه العذبة لمدينة تونس، وبناءه لسور القيروان، وإقامته لمكتبة مسجد دار الباشا، وتجديده الجامع الأعظم بالمنستير، وبناءه الجامع الحنفي وكذلك سور الربض الجوفي بها، ومقام الإمام المازري وإقامته مدرسة به، ومقام أبي علي يونس بن السماط، وبدأ يستقل في تصرفاته السياسية عن الدولة العثمانية فأبطل تولية القضاء من طرفها وتولى تنصيب قاض حنفي من الحاضرة، وقاض مالكي، كما صرف اهتمامه للأحوال الاجتماعية فعطل الخمر وهدم الحانات، وأجرى على الفقراء والمحتاجين الصدقات.

وفي عهد الأمير حموده باشا الحسيني ظهرت بجانب الحروب والأزمات بتونس مجاعة كبرى أرسل الأمير بسببها العلامة الشيخ إبراهيم الرياحي إلى سلطان المملكة المغربية بفاس مولاي سليمان يستمد الميرة. وهو أول من جعل ثبوت الأهلة من اختصاص القاضي المالكي، وقد اتخذ الأساطيل لمواجهة العدو في غاية المنعة، ومن مآثره الأبراج الضخمة التي ابتناها، والثكنات الكثيرة التي اتخذها داخل العاصمة وخارجها، والأسواق والقصور.

<<  <  ج: ص:  >  >>