للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتميزت أيام أخيه عثمان خصبًا ورخاء وإن لم تطل.

وسار محمود باشا ابن محمد الرشيد على سنن أبيه وعمه، فدانت له القلوب بالطاعة وأمنت في أيامه السبل لولا أن هدد البلاد طاعون دام عامين، حلت بإثره المجاعة. فأنفق الأمير أموالًا طائلة لمواجهة الوضع، وجلب ما يكفي من الأقوات لسد خلة المنكوبين والمحتاجين. ومن مآثره الرائعة البيت الذي أنشأه بقصر باردو على نمط فريد.

ولما ولي الحكم من بعده ابنه حسين باشا تبع منهج أبيه فكان خليقًا بالأمارة حسن السياسة. أمنت البلاد في عهده كل سوء وكان حذرًا يقظًا. ابتنى لسكناه ثكنة المركاض، وجدد رباط المنستير، وهو إلى ذلك ذو عاطفة دينية وإيمان وخشية. ولما جذع الناس اشتد بهم البلاء بسبب انحباس الغيث أشفق على بلده، وأحزنه حال رعيته فجعل لجوءه إلى الله وتوسله إليه سبحانه بقراءة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، جاعلاً ذلك مفزعًا له، وسبيلاً لكشف الغمة، فجمع العلماء بجامع الزيتونة، وفرق عليهم أسفار صحيح البخاري، وطلب منهم قراءته كاملًا، فأتموا ذلك في مجلس واحد، ومن ذلك الوقت جرت العادة بتونس بهذا العمل، سنة ماضية فيهم عند نزول الشدائد (١) .

وقد يدعو الأمر بعد تصوير الحالة السياسية والاجتماعية للمملكة التونسية في ذلك الظرف إلى ملاحظة أن الحاكمين في البلاد بإثر فتح سليم الأول لها وطرد الأسبان منها على يد سنان باشا ٩٨١ كانوا ولاة عثمانيين ومن موالهيم. وهم في الأصل أعاجم من كرسيكة وجزر الكريت ونحوها، عملوا عهدًا طويلًا غزاة في البحر ثم اعتنقوا الإسلام وانضموا للجيوش العثمانية. فاستقروا بالولايات وتقلبوا في المناصب إلى أن كان منهم البايات والباشوات والدايات والأغوات. وارتباطهم بالدولة العلية كان على أساس اعترافها بهم ولاة عنها، تأتيهم من خلفائها وسلاطينها التقليدات والفرمانات، فتعينهم في مناصبهم أو تقرهم بها كما تنظم العلاقات الدولية فيما بين بلد الخلافة والولاية. وبحكم بعد بعض الولايات عن مركزية الدولة، وبسبب ما كان يعرض أحيانًا من ضعف السلاطين وانشغالهم عن أطراف بلاد الخلافة، كان البايات والدايات يتصرفون تصرف الملوك تصرفًا مطلقًا، ويجعلون الأمر وراثة بينهم في أسرهم وأهليهم. وهكذا كان شأن دايات الدولة المرادية، "فلما انقرضوا عن آخرهم دخلت الإيالة التونسية في حكم البيت الحسيني بطلب من أهل تونس وعن طيب نفس منهم وأخذت سلطة الباي في النمو والظهور وسلطة الداي في التراجع والتضاؤل بتغلب الأولى على الثانية" (٢) .


(١) محمد مخلوف، الشجرة: ٢/١٥٨ - ١٦٩؛ ومحمد رشاد الإمام، سياسة حموده باشا: ص ٥٨ - ٨٠.
(٢) محمد ابن الخوجة، صفحات من تاريخ تونس، الألقاب والنعوت الملكية في البيت الحسيني: ص٥٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>